بقلم: د. أحمد عبد الله أحمد
مدرس التاريخ الوسيط بجامعة فان هولندتعد منطقة الساحل الشامي من المناطق الهامة في البحر المتوسط، فالشريط الساحلي الممتد من لواء الإسكندرونة شمالا حتى غزة جنوبا من المناطق الهامة تجاريا، ومع تدهور أحوال الخلافة العباسية وقيام الدول المستقلة عنها أصبحت بمثابة نقطة الصراع بين هذه الدول المختلفة، فمن يمتلكها يستطيع أن يسيطر على المدن الساحلية، وإنشاء أساطيل تجارية وأيضا حربية تكفل له الأمان من جانب الدول البحرية.
وقد كانت بلاد الشام موطن السيد المسيح (عليه
السلام) ومزارا للحجاج المسيحيين في الغرب الأوربي، فقد ساءهم وقوع تلك المنطقة
تحت السيطرة الإسلامية. ففي تلك الفترة كانت الدولة الفاطمية تسيطر على بلاد الشام
ونتيجة الصراع الذي قام بين الدولة الفاطمية والإمارات السلجوقية في العراق حول
السيطرة على بيت المقدس أدى إلى تعرض الحجاج إلى بعض المضايقات من جانب السلطات
الإسلامية وخصوصا أنه في تلك الفترة كان يحكم الدولة الفاطمية الحاكم بأمر الله
الفاطمي الذي كان حكمه وبالاً على رعايا الدولة من المسلمين والمسيحيين.
نتيجة لتجمع كل هذه الأسباب قامت حركة الحروب
الصليبية لكي تستولي على بلاد الشام نتيجة إلى أهميتها الاقتصادية حيث بدأت هذه
الحركة في تأسيس عدة إمارات في بلاد الشام منها إمارة الرها في شمال الساحل الشامي
وأيضاً إمارة إنطاكية وأهم تلك الإمارات على الإطلاق مملكة بيت المقدس، وبعد تكون
هذه الإمارات كان الساحل الشامي تحت السيطرة الإسلامية، لذلك اتجهت القوة الصليبية
إلى إيجاد منفذ لها على الساحل الشامي حيث بدأت في الاستيلاء على مدن الساحل
الشامي مثل (صور– صيدا – حيفا – عسقلان – عكا – يافا... الخ)، وذلك حتى تستطيع
الإمارات الصليبية أن يكون لها اتصال بالغرب الأوربي لأنها زرعت في محيط إسلامي.
ولقد كان من أسباب هذه السيطرة الصليبية على
مدن الساحل الشامي هو إنهاء دور الوساطة التجارية التي لعبها العرب في البحر
المتوسط، ففي ذلك الوقت حدث نوع من النشاط التجاري في المدن الإيطالية مما أدى إلى
اتجاهها للبحث عن مراكز تجارية لتصريف منتجاتها والقضاء على النفوذ الإسلامي في
البحر المتوسط. كل ذلك يفسر لنا تسابق المدن الإيطالية في الاستجابة لدعوة البابا
(أوربان الثاني) الذي نادى بفكرة الحروب الصليبية ووعد
بالغفران لكل من يشارك في تلك الحملات، وكانت الحروب الصليبية تمثل ذريعة أساسية
لكي تشارك فيها المدن الإيطالية حتى تصل منتجاتها إلى شرق أسيا.
بعد استقرار القوى الصليبية في الساحل الشامي،
قامت الدولة الفاطمية بمحاولات لاسترداد هذه المنطقة الهامة، وأيضا تدخلت القوى
السلجوقية في هذا الصراع بعد هزيمتها أمام الجيوش الصليبية وقامت محاولات عديدة
لاسترداد تلك المناطق حتى كانت الكارثة الكبرى، وهى سقوط إمارة الرها في يد القوى
الإسلامية وبعد ذلك قيام صلاح الدين الأيوبي بناءا على جهود
سابقيه بإيقاع أكبر الهزائم العسكرية بالجيوش الصليبية في معركة حطين (1187م)، ثم
قيامه بعد ذلك باسترداد مدن الساحل الشامي حتى لم يبقى للجيوش الصليبية غير مدينة
صور.
على الرغم من تلك الفترة العصيبة من الحروب
والمعارك التي قامت بين القوى الصليبية والقوى الإسلامية في الساحل الشامي، إلا
أنه في فترة الهدنة التي كانت تعقد بين الطرفين كان يوجد نوع من النشاط التجاري
مثلته المدن الإيطالية التي سارعت بالحصول على الإمتيازات التجارية في الإمارات
الصليبية، بل إننا نجد هذه المدن تدخل من أجل ذلك في حروب مع بعضها البعض، بل ومع
الإمبراطورية البيزنطية، وحتى يكون الساحل الشامي بحيرة للمدن الإيطالية فقد فرضت
هذه المدن على دول الغرب الأوربي شروط قاسية من أجل إبحارها في البحر المتوسط، بل
لقد عملت على استمالة البابا إلى جانبها بفرض مراسيم وقرارات الحرمان ضد هذه المدن.
وهكذا، يتضح أن التجارة هي التي تحكمت – بصورة
ما - في الأمور السياسية، وكانت من أهم الدوافع التي أدت لقيام الحروب الصليبية،
وقد ظهر ذلك واضحا في خطاب البابا أوربان الثاني في كليرمونت بفرنسا، الذي كان من
أهم الدوافع المحركة للحروب الصليبية.
ومن المعروف أن المكتبة العربية خلت من دراسة
متخصصة عن التجارة في تلك الفترة، ولا يوجد ما يسد تلك الثغرة غير تلك الرسالة
التي قدمتها لنيل درجة الماجستير في الآداب والتي أتمنى أن تكون قد قامت بالمهمة
على نحو معقول.
كانت الحماسة الصليبية ظاهرة مع بداية الغزو،
غير أن تلك الحماسة الدينية ضعفت بعد عدة أجيال من استقرار الصليبيين في بلاد
الشام، وظهرت النزعة التجارية بشكل واضح بعد ذلك، حيث اتضح لنا من خلال دراسة
الموضع أن تلك الحركة التجارية ما هى إلا عملية نهب وسرقة منظمة لثروات الشرق
والساحل الشامي، وكانت المدن التجارية الإيطالية هى الأداة المنظمة لتلك السرقة،
التي قامت على إثرها النهضة الأوربية الحديثة فيما بعد.
كما تبين أن الحركة التجارية كانت في أوج
نشاطها خلال القرن الثاني عشر الميلادي- السادس الهجري، وذلك بمساعدة الأحوال
السياسية التي سيطرت على المنطقة، من تقدم الصليبيين نسبيا في الناحية العسكرية،
غير أن تلك الحركة سرعان ما بدأت أن تضعف في نهاية النصف الثاني من القرن الثاني
عشر الميلادي - السادس الهجري، وبالتحديد بعد معركة حطين [1187م/ 583هـ]، حين
تمكنت الجيوش الإسلامية بقيادة "صلاح الدين الأيوبي" من هزيمة الصليبيين
واسترجاع معظم الشريط الساحلي الشامي.
ومع مجيء القرن الثالث عشر الميلادي - السابع
الهجري، بدأت الأوضاع السياسية في التغير، وذلك على الصعيد العالمي، حيث ضعفت
الروح الصليبية في قارة أوربا، التي انشغلت بمشاكلها الداخلية، ويضاف إلى ذلك
احتلال البندقية لمدينة القسطنطينية [1204م/ 600هـ]، فأدى ذلك إلى ضعف تيار
التجارة نسبيا في الساحل الشامي، ويضاف إلى ذلك ظهور القبائل المغولية في وسط آسيا
واكتساحها لغرب آسيا المسلم وصولا إلى الساحل الشامي، كان من العوامل التي لها
أثرها السيئ على الحركة التجارية.
ومن العوامل الأخرى التي أدت إلى ضعف الحركة
التجارية، هى قيام دولة سلاطين المماليك بمصر، الذين استطاعوا قهر القبائل المغولية
في معركة عين جالوت [1260م/ 658هـ]، ويضاف إلى ذلك تحول المماليك إلى تصفية الوجود
الصليبي في الساحل الشامي، ابتداء من السلطان بيبرس وختاما بالأشرف خليل بن قلاوون
الذي استكمل أعمال من سبقوه في فتح مدينة عكا [1291م/ 690هـ]، ثم طرد بقايا
الصليبيين نهائيا من الساحل الشامي، بإخضاع كل من صيدا وحيفا، ثم أخيرا أنطرطوس
وعثليث.
وكان من نتائج تلك الأعمال البطولية لسلاطين
المماليك هو هدم المدن الساحلية الشامية وتحصيناتها، خوفا من أن يعود الصليبيين
إليها مرة أخرى، مما أدى بدوره إلى توقف الحركة التجارية بتلك المدن نهائيا، وكان
من العوامل الأخيرة التي تركت أثارا مدمرة على الحركة التجارية، هي عوامل طبيعية
من زلازل قامت بحركة تدميرية كبيرة في المراكز التجارية الساحلية، بالإضافة إلى
المجاعات والأوبئة التي كانت لها أثارها على توقف تلك الحركة التجارية.
وهكذا يمكننا إيضاح أهمية التجارة في الساحل
الشامي في عصر الحروب الصليبية إلى عدة نقاط لا يمكننا إغفالها، وهي:
أولاً:
احتل الساحل الشامي أهمية إستراتيجية كبرى،
وتجلت تلك الأهمية في عصر الحروب الصليبية على مدى القرنين 12/13م- 6/7هـ، وقد حرص
الصليبيون على انتزاع السيادة السياسية لذلك النطاق الحيوي من المسلمين، وظلوا
طوال ما يزيد على 53 عام، يحاولون ذلك، وهى مدة تعادل ربع مدة تاريخهم في بلاد
الشام، ويلاحظ أن المسلمين حاولوا استعادة مدنهم بعد معركة حطين 1187م/ 583هـ،
وأهمية الساحل الشامي ارتبطت بأنه جسر الاتصال بين الصليبيين في بلاد الشام وبين
وطنهم في أوربا، وحقيقة الأمر أن الصراع الإسلامي الصليبي لا يكتب إلا من خلال ذلك
الصراع على نطاق الساحل الشامي الحيوي.
ثانياً:
كانت التجارة هى محور نشاط ذلك الساحل الشامي،
وقد وجدت العديد من المراكز التجارية مثل عكا وصور وبيروت وطرابلس، وإن اختلفت
أهميتها، وإن كانت عكا جوهرة الساحل إذ ازدهر شأنها، وقد كشفت المصادر التاريخية
الصليبية لاسيما كتب الرحالة الأوربيين عن أهمية مدينة عكا، ولذلك فإن تاريخ
الصليبيين في المنطقة لا يكتب – بصفة عامة – إلا من خلال مدينتين أساسيتين عكا على
الساحل، وبيت المقدس في الظهير.
ثالثا:
وجدت العديد من المنشآت التي ساعدت على ازدهار
النشاط التجاري بالساحل الشامي مثل: الفندق والخان والقيسارية، وكلها دلت على
ازدهار النشاط التجاري بصورة غير مسبوقة في تاريخ ذلك النطاق الجغرافي الحيوي في
مرحلة العصور الوسطى، وتلك المنشآت التجارية توضح لنا أن العمائر الأثرية التي
عبرت عن ذلك العصر، وجدت في صورة قلاع وحصون، وقد تسيد أمرها الصليبيون، ومدارس
وخوانق وزوايا، ثم من بعد ذلك تلك المؤسسات التجارية التي عبرت عن المنظومة
التاريخية لذلك العصر.
رابعاً:
لا يمكن الفصل بين ازدهار التجارة في الساحل الشامي،
وما حدث على نطاق عالمي لاسيما في البحر المتوسط في صورة ثورة تجارية، حيث شهدت
منطقة الساحل الشامي ثورة تجارية ولم تشهد ثورة صناعية، وبالتالي فإن العديد من
السلع دخلت في نطاق الاستهلاك الجماهيري مثل التوابل والحرير وغيرها من السلع، كما
تضخمت رؤوس الأموال المستثمرة في عمليات النشاط التجاري، وجاء ذلك مصاحباً لاختراع
البوصلة، ولا ريب ؛ أن كافة تلك التطورات كانت تعبر عن اقتراب المسافة بين الشرق
والغرب في عصر الحروب الصليبية حيث فرضت التجارة نفسه حتى على الأعداء، فاضطروا
إلى التعامل التجاري مع بعضهم البعض على الرغم من الصراع الديني والسياسي. وقد
شكلت التجارة في الساحل الشامي عنصراً ضاغطاً على رجال السياسة والحرب لكي يحافظوا
على المصلحة التجارية بين المسلمين والصليبيين، ولدينا رحالة أندلسي الذي شهد على
النشاط التجاري بين المسلمين والصليبيين في القرن 12م/6هـ، ويلاحظ امتداده في
القرن 13م/ 7هـ.
خامساً:
لعبت الخبرة "التجارية المتوراثة"
لدى سكان بلاد الشام الأصليين دوراً محورياً في نمو النشاط التجاري شرق البحر
المتوسط في عصر الصليبيات، ومما يذكر هنا ؛ إن الصليبيين قدموا إلى منطقة ذات
عراقة في النشاط التجاري منذ عهود الفينيقيين الذين تسيدوا في التاريخ القديم
تجارة البحر المتوسط، وعندما قدم تجار المدن الإيطالية مثل جنوة وبيزا والبندقية
ليشاركوا في النشاط التجاري وينهوا دور المسلمين كوسطاء تجاريين، اتضح لنا الفارق
الشاسع بين تجارة سكان البلاد الأصليين من المسلمين وتجارة الغزاة الصليبيين الذين
قدموا من خلال مشروع لنهب منظم لثروات المنطقة على حساب سكانها الأصليين.
سادساً:
ازدهرت في الساحل الشامي مختلف العملات من خلال
"التركيبة العالمية" للكيان الصليبي، ومثلما تعددت الأجناس في مدن
الساحل الشامي تعددت العملات المستخدمة، وقد حرص الصليبيون على إصدار عملات
إسلامية مزورة ترجع إلى عهود الفاطميين والأيوبيين، مما عكس أن الأطماع التجارية
دفعت الغزاة إلى أن تتسع جبهة صراعهم مع المسلمين لتشمل حتى العملات المتداولة في
النشاط التجاري.
سابعاً:
الواقع أنه على الرغم من أن الدراسة تخصصت في
الساحل الشامي، إلا أنها أكدت الصلة الوثيقة بين الظهير الشامي والساحل، كما أكدت
على أن مواني الساحل الشامي تصدر منتجات الظهير، فالسويدية ميناء أنطاكية،
واللاذقية ميناء حلب، وطرابلس ميناء حمص، وبيروت وعكا ومينائي دمشق، ويلاحظ أن
الساحل صبت فيه نهايات الطرق التجارية الحيوية العالمية العابرة للقارات القادمة
من وسط آسيا العابر للقارات، الذي وصل بين آسيا وأوربا، وبالتالي يتأكد لنا أن
الساحل عندما درس تأكد ارتباطه الوثيق بمدن الظهير.
ثامناُ:
لا ريب؛ في أن الصليبيين ربحوا أرباحاً طائلة
من تجارة الساحل الشامي على مدى القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين،
السادس والسابع الهجريين، عصر الحروب الصليبية، ولذلك لا نندهش عندما ظهرت النهضة
الأوربية أول ما ظهرت في أوربا في مطلع العصور الحديثة في إيطاليا بعد أن ساهم
التجار الإيطاليون بنصيب وافر في النشاط التجاري، وظهرت أسرات تدعم النهضة العلمية
كأسرة أمديتشي وغيرها على نحو يؤكد أن حركة الاستعمار الأوربي (أي الاستخراب
الأوروبي) في العصور الوسطى في صورة الحروب الصليبية، ربح الأوربيون من ورائها
الكثير والكثير، فقد ربحوا ثروات المنطقة وتتلمذوا في مدرسة الشرق الكبرى، وتلك
حقيقة أثبتها المنصفون من المستشرقين أنفسهم.
* * *
وعلى الرغم من الجهد الذي بذلناه في الدراسة،
إلا أننا لم نستطع إيفاء الموضوع حقه تماماً، ولكننا قمنا بجهدنا في سبيل ذلك،
والأمل معقود على غيرنا من الباحثين أن يقدموا جديداً من خلال ظهور مصادر جديدة في
التاريخ الصليبي في بلاد الشام، وأيضاً الداراسات الحديثة.
** نشرت في: مجلة المقتطف المصري التاريخية | السنة الأولى | العدد الأول | أبريل 2009 ميلادية -1430 هجرية