جديد المقتطف

الجمعة، 8 أغسطس 2014

الأجانب في مصر قبل العصر المملوكي

بقلم: د. سماح السلاوي
كاتبة وباحثة في التاريخ الإسلامي والوسيط
شهدت مصر قبل العصر المملوكى وجودا أجنبياً واضحا، وكان ذلك راجعاً إلى قوتها الاقتصادية، وسيطرتها على التجارة الشرقية التي لا تستغني عنها الدول الأجنبية، وإلى استعداد الحكام الفاطميين لفتح البلاد وزيادة الارتباط مع الدول الأوربية والآسيوية والإفريقية، حيث كان التسامح الديني الذي أبداه  بعض الحكام الفاطميون فرصة حسنة استغلها الكثيرون للوفود إلى الديار المصرية، كما شجع السلطان صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية الأجانب للقدوم إلى مصر، وحذا حذوه من جاء بعده من ملوك بنى أيوب.
ومما لاشك فيه أن الأجانب أقاموا فى مصر بأعداد كبيرة، وخاصة الجاليات الأوربية التجارية التي اهتمت بالتجارة مع مصر، وأصبح الدافع التجارى يمثل السبب الأساسى لوجودهم في مصر، ولذا حرصت الدول الأجنبية على تحقيق هذا الدافع فوجدناها تعقد الصفقات التجارية مع حكام مصر، وسعت دائما لإرضائهم للحصول على امتيازات متعددة، تسمح من خلالها بإقامة رعاياها فى البلاد المصرية بشكل منظم ودائم إلى حد ما.
وقد ذكر بنيامين التطيلى الذى زار مصر فى بداية عصر صلاح الدين الأيوبي، أنه رأى فى الإسكندرية تجاراً من ثمانية وعشرين بلداً أجنبياً من جنسيات متعددة، أهمها الجمهوريات الإيطالية (جنوة - بيزا البندقية - ونابولي - بالرمو- أمالفي)، وأرمينية الصغرى وصقلية وأسبانيا والبرتغال وبيزنطة، وغيرها من الدول الأخرى.
وأوضح بهذه المناسبة أنه فى شتاء سنة 1187م/ 1188م، كان بميناء الإسكندرية سبع وثلاثون سفينة تجارية قادمة من الدول الأوربية، على أن هذا العدد ليس قاطعا لأن غالبية التجار الأجانب كانوا يفضلون ممارسة أعمالهم بمصر في الفصول الملائمة، وهى الربيع والصيف والخريف، أما الشتاء فكانوا يرغبون فى البقاء فى بلادهم.
وساهمت الحروب الصليبية الموجهة على الشرق الإسلامي في استمرار الوجود الأجنبيى فى مصر، حيث إنها قد أعطت الفرصة للأجانب لتحقيق الربح المادي، والمزيد من الاحتكاك المباشر مع مصر، وهكذا أصبح تقدم الحملات الصليبية مرتبطا بازدهار التجارة  الأجنبية.
وظهر هذا التأثير واضحا بعد نجاح الحملة الصليبية الأولى حيث استطاعت الجمهوريات الإيطالية أن يكون لها وضع ومركز ثابت فى موانئ الشرق فأسست الفنادق والأحياء التجارية الخاصة بها فى مقابل تقديم المؤن والسلاح  نقل الفرسان الصليبين إلى بلاد الشام وسرعان ما أدركت بقية الدول الأجنبية أهمية الحروب الصليبية اقتصاديا فسارع تجار مارسيليا وأسبانيا والبرتغال بتقديم المساعدات العسكرية للصليبين فى مقابل السماح لهم بإنشاء مراكز تجارية فى بلاد الشام والإقامة بها والاستفادة من التجارة مع الشرق.
وعلى الرغم من تكرار صدور أوامر البابا بمنع التجارة مع المسلمين ألا أنها لم تتوقف كليا إذ لم يكن إلا أقلية من التجار حافظوا على ما يربطهم بالمسيحية  وبالكنيسة بدليل وجود ثلاثة آلاف تاجر أجنبى اجتازوا الإسكندرية وصار يتردد على ميناء دمياط سفن من أبوليا والبندقية وبلاد اليونان وأرمينية وسوريا، وهذا معناه أن الدافع  الاقتصادى  أثر بشكل واضح فى العلاقات بين الدول الأجنبية ومصر.
وفى الوقت الذى  كانت فيه المنطقة العربية تقاوم الهجوم الصليبى كانت الدول الأوربية التجارية تلعب  دورا مزدوجا، بمعنى أنها كانت تمد السلاطين الأيوبيين بالأخشاب والسلاح والحديد وأدوات الحرب وتعقد معهم الصفقات التجارية وفى نفس الوقت تقدم سفنها لنقل المحاربين الصليبين إلى الشرق.
وعلى الرغم من استمرار الحملات  الصليبية على مصر واشتراك التجار الأجانب فيها وفشلها فى تحقيق هدفها العسكرى فإن ذلك لم يؤثر على علاقتهم بمصر ولم  يؤثر  كذلك على تواجدهم  فى الديار المصرية، وليس أدل على ذلك من أن  السلطات  الحاكمة   فى مصر قد سمحت للأجانب سواء كانوا تجارا أو سفراء أو رحالة وغيرهم بالإقامة  فى فنادق مخصصة لهم وأصبح لكل جالية أجنبية فندق خاص بها وفى العادة كانوا يختارون  أحد أفراد الجالية للإشراف على مسألة الإقامة فى الفندق وإدارته  وحماية سكانه والعمل على راحتهم.
وقد سمح السلاطين للأجانب بالإقامة فى الثغور والمدن الساحلية مثل رشيد ودمياط والإسكندرية والبرلس وغيرها من المدن المصرية التجارية الهامة فى حين لم تسمح لهم بالإقامة أو التواجد الدائم فى القاهرة فعندما حاول البيازنة الحصول من السلطان صلاح الدين الأيوبى على تصريح ببناء فندق لهم فى القاهرة - كما كان موجودا  أيام الفاطميين - إلا أنه لم يجب عليهم بالقبول أو بالرفض، ولم يحدث بعد ذلك أن أقام الأجانب فى القاهرة بصفة أساسية.
وثمة حقيقية هامة أكدها صلاح الدين الأيوبى فى خطابه المرسل إلى الخليفة العباسى وهى الدور المزدوج الذى لعبته الجاليات الأجنبية فى علاقتها بمصر ومؤكد على استمرار التواجد الأجنبى بها لأسباب متعددة حيث قال فى خطابه: "ومن هؤلاء الجيوش البنادقة، والبيازنة والجنوية، كل هؤلاء تارة  يكونون غزاة لا تطاق ضراوة ضرهم ولا تطفأ شرارة شرهم، وتارة يكونون سفارا يحتكمون على الإسلام فى الأموال المجلوبة، وتقصر عنهم يد الأحكام المرهوبة، وما منهم إلا من هو الآن يجلب إلى بلادنا آلة قتاله وجهاده، ويتقرب إلينا بإهداء طرائف أعماله وتلاده، وكلهم قد قررت معهم المواصلة، وانتظمت معهم المسألة على ما تريد ويكرهون، وعلى ما تؤثرهم لا يؤثرون".
وقد كثرت أعداد الاسرى الأجانب من جنسيات متعددة منذ أيام صلاح الدين الأيوبى نتيجة لحروبه مع الصليبين فى بلاد الشام حيث ذكر لنا الرحالة عبد اللطيف البغدادى الذى زار مصر فى تلك الأيام أنه رأى أعداداً هائلة من أسرى الفرنجة تشارك فى بناء سور القاهرة وقلعة الجبل. وكذلك ما حدث فى عام575هـ حينما هاجم السلطان الأيوبى الصليبين فى بانياس وأسر عدداً كثيراً، وكان منهم مقدم الداوية ومقدم الاستبارية وحاكم طبرية وحاكم جنين ويافا وعددا كثيرا من الفرسان والبارونات، وغيرهم من القواد ما يزيد على مائتين وسبعين أسيرا فمنهم من استطاع فداء نفسه ومنهم من ظل فى الأسر.
وفى عام 578هـ/ 1182م قام "رينالدو دى شاتيون" – المعروف فى المصادر العربية باسم أرناط الذى كان حاكماً على مدينة الكرك - بحملة بحرية على شبه الجزيرة العربية وكان هدفها الهجوم على مكة والمدينة، وأخذت سفنه تغير على الموانىء المصرية الصغيرة فى البحر الأحمر، واستولوا على مراكب مصر فى بحر عيذاب (البحر الأحمر) استطاع الأسطول المصرى هزيمتهم وأسرهم، وأرسل الملك العادل الأيوبى الذى كان نائبا عن أخيه صلاح الدين فى مصر أثناء سفره إلى بلاد الشام بعضهم إلى مكة لذبحهم عقوبة لهم على قصدهم البيت الحرام ثم عاد إلى القاهرة ومعه بقية الأسرى.
أما الدولة البيزنطية فقد تأثرت علاقاتها بمصر بكثير من الاعتبارات السياسية والاقتصادية، ونقصد بالسياسية هى تلك الحروب التى نشبت بين الدولتين فى البر والبحر فى العصر الفاطمي، والتي أدت إلى توتر العلاقات بين الدولتين فى أحيان كثيرة، وبالتالي أثر هذا على وضع الجاليات الرومية فى مصر.
أما عن الاعتبارات الاقتصادية، فقد كانت القسطنطينية فى موقع جغرافى هام، فهى تقع على الطرق التى تربط قارتى آسيا وأوروبا، مما جعل من السهل أن تصل إليها الغلات من وسط آسيا وشرقها  بالطريق البرى، فهى إذن لم تكن فى حاجة للاعتماد على مصر أو الشام  لتزويدها بهذه الغلات،  ولكن هذه الاعتبارات لم توقف العلاقات بين الدولتين تماما إذ كانت بيزنطة فى حاجة إلى بعض  المصنوعات الممتازة مما تنتجه مناسج تنيس ودمياط، كما اهتمت مصر بتحسين علاقاتها مع بيزنطة حتى تحصل على الفراء وغيرها من غلات البلاد الواقعة بجوار البحر الأسود حيث ذكر لنا ناصر خسرو أنه رأى كثيراً من السلع البيزنطية فى أسواق مصر. واستمرت هذه  العلاقة خلال العصر الأيوبى.

ومثلما كان هناك فى القسطنطينية جاليات مسلمة، فقد كان هناك فى مصر جالية رومية استقرت فيها قبل الفتح الإسلامى لمصر، ثم خصص لهم القائد المسلم عمرو بن العاص منطقة للإقامة فيها سميت بالحمروات فأقاموا بها كنيسة سميت بكنيسة الحمروات. ومع قيام  الدولة الفاطمية بمصر وفدت عناصر رومية أخرى إليها، واستقرت فيها وعاشوا فى حارة الروم طوال العصر الفاطمى والأيوبى ثم دخل كثير من الروم فى الإسلام واندمجوا فى المجتمع المصرى.
ولقد نشأت مملكة أرمينية الصغرى فى أواخر القرن السادس الهجرى الثانى عشر الميلادى، فى إقليم  قليقيا أى فى الركن الجنوبى الشرقى فى آسيا الصغرى، وقد تعرضت أرمينية لغزوات متعددة من قبل البيزنطيين والمسلمين نظرا لموقعها الاستراتيجى الهام، ولذا اضطر الأرمن للهجرة إلى جهات متعددة، وكانت مصر أهم هذه الجهات، حيث استعان بهم الخلفاء الفاطميون فى الإدارة مثل: الوزير بدر الدين الجمالى، الذى كان له الفضل الأول فى وفود أعداد كبيرة من الأرمن إلى مصر، واتسع نفوذ الأرمن وقويت سلطتهم وازداد نشاطهم فى مجالات  السياسة والإدارة الحربية والعلمية والعمرانية، مثل الأمير  المظفر رئيس ديوان الأفضل فاساك حاكم قوص، وأبو منصور كُستا حاكم الإسكندرية والقائد تاج الدولة قلماز وغيرهم.
وتشير المصادر المعاصرة إلي تدفق الأرمن إلى مصر بفضل الوزير بهرام الأرمنى، حيث وصل عددهم فى الجيش الفاطمى إلي عشرين ألفاً معفون من الجزية، كما سعى لإحضار أخوته وأهله من تل باشر وولاهم وظائف عليا فى الدولة، ولكن العامة ثاروا علية فاضطر للهرب إلى الصعيد، واستغل العامة هذه الفرصة وقاموا بعمليات نهب وسلب مساكن الأرمن وحاراتهم وكنيسة الزهرى كبرى كنائس الأرمن فى مصر.
وفى عهد الدولة الأيوبية، وبعد أن استطاع صلاح الدين أن يقضى على الأخطار الداخلية، عاد الأرمن للإقامة والسكنى فى القاهرة، وظلوا على ديانتهم ولم يتعرض لهم أحد بالأذى أو بالظلم، وقد عبر عن ذلك أبو صالح الأرمنى، حيث أكد أن الأرمن كانوا يمارسون حياتهم الدينية بحرية تامة فى كنيسة الطاهرة بحارة زويلة وكنيسة يوحنا المعمدان، ولكن ما لبث أن ثار الأرمن اتفاقا مع العبيد السود لأحياء الخلافة الفاطمية مما أثار غضب صلاح الدين الأيوبى، الذي بإشعال النار فى منازلهم وقبض على الثوار، وأخذ منهم كنيسة الزهرى وكنيسة البستان وأعطاهما للقبط، مما أدى إلي قلة أعداد الأرمن فى ذلك الوقت، وعندما هدأت الأحوال شهدت القاهرة مجيء العديد من الأرمن الذين عاشوا فيها، حيث وصلها أسقف وثلاثة قساوسة نزلوا بكنيسة يوحنا المعمدان، كما وفد فى عام 581هـ /1185م طائفة أخرى من الأرمن، ورحب بهم السلطان العادل الأيوبى، وأعاد إليهم أموالهم وكنائسهم.
وقد وفدت إلى مصر جالية أجنبية أخرى، وهى من العبيد السود، وكانت مملكة النوبة المسيحية تدين بالطاعة والولاء لحكام مصر منذ الفتح الإسلامى وفقا لاتفاقية البقط، التى نصت على طاعة ملوك النوبة لمصر، وتقديم عدد من الرقيق إلى الأسواق المصرية، وبهذا فقد فتحت معاهدة البقط الباب على مصراعيه أمام تواجد الرقيق السود فى مصر، ولكن هذا ليس معناه أن الرقيق السود كانوا من بلاد النوبة، بل كانوا يجلبون من المساحة الواسعة المترامية الأطراف فى داخل السودان، وذلك لأن النوبة المعروفة بقلة سكانها لم يكن بوسعها أن تمد مصر بأعداد كبيرة من العبيد على حساب سكانها، وبهذا فالمكان الأصلى الذى يجلب منه الرقيق غير معروف على وجه الدقة، ويرجع السبب إلى أن كلمتى النوبة والسودان متداخلتين تقريبا واستخدمتا فى المصادر الإسلامية بصورة غير محددة.
وقد حرص الخلفاء الفاطميون على اقتناء العبيد السود، ومن منطلق ذلك أرسل جوهر الصقلى مبعوثا إلى ملك النوبة يطالبه بدفع الجزية المقررة علية من العبيد السود، الذين انضموا فى سلك الجندية والإدارة، ثم أصبح العبيد السود أهم العناصر العسكرية فى الجيش الفاطمى، حيث استكثر منهم الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمى، وذلك رغبة منه للحد من نفوذ الأتراك والصقالبة، وكذلك مال الخليفة المستنصر الفاطمى إلى العبيد السود، وظل ذلك العنصر أساس تكوين الجيش الفاطمى وقوة الدولة الفاطمية حتى نهاية العصر الفاطمى، وبحكم صلة الجوار أيضا فقد استقرت بعض العناصر النوبية فى الصعيد الأعلى، بالإضافة إلى الترابط التجارى بين مصر والنوبة، حيث اعتاد التجار النوبيون على نقل بضائعهم على ظهور الجمال إلى أسوان وأحيانا ما يسافر التجار المصريون إليها.
ومع قيام الدولة الأيوبية، وجد صلاح الدين أن العبيد السود يثيرون الشغب ويتحالفون مع العناصر الأخرى فى الدولة لإعادة الحكم الفاطمى فى مصر، فعمل على استئصال شأفتهم نهائيا من البلاد، وأزال الجيش الفاطمى بكل عناصره وأهمهما العنصر النوبى، مما أدى إلى قلة العنصر النوبى فى مصر، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل سارع صلاح الدين الأيوبى بفرض السيطرة المصرية على بلاد النوبة عدة مرات، فحاول شن حملات قوية على أهم قلاعها حفاظا على حدود مصر الجنوبية، وعلى حماية ميناء عيذاب الذى يعد المنفذ التجارى الهام لمصر.
ونخلص مما سبق، أن الجاليات الأجنبية كانت موجودة فى المجتمع المصرى قبل العصر المملوكى بأعداد وفيرة، حيث العدد والجنسية نظرا لظروف وعوامل متعددة، منها ما يتعلق بالظروف الداخلية  للدولة، وحسن معاملة السلطات للأجانب الوافدين، واستقرار الأمن الداخلى، والمميزات التى تمتعت بها المدن المصرية وسيطرتها على طرق التجارة فى الشرق، بالإضافة إلى عوامل خارجية تمثلت فى طبيعة العلاقات بين القوى السياسية المعاصرة، واضطراب الأحوال فى الشرق والغرب نتيجة للحروب والمعارك الضارية وتوسعات بعض الدول الكبرى، مما أدى إلى تعطل وتدهور الطرق القديمة، وكذلك ضعف موقف البابوية وفشلها فى السيطرة على أوربا، وعوامل اجتماعية قوية ساهمت فى وفود العديد من الأجانب إلى مصر بأعداد وفيرة وجنسيات مختلفة فوجدوا فى مصر الملاذ والملجأ الآمن.