جديد المقتطف

الجمعة، 8 أغسطس 2014

تركي وألباني .. وما أشبه اليوم بالبارحة

بقلم: سوزان عابد
باحثة الآثار الإسلامية - مكتبة الإسكندرية
"ما أشبه اليوم بالبارحة".. مقولة شهيرة تتردد كثيرًا في أحاديث مختلفة نسمعها بين السياسيين ورجال الاقتصاد والمثقفين وبين العامة على المقاهي وفي الشوارع.. ولكن "اليوم" و"البارحة" في حكاية اليوم يفصل بينهما ما يقرب من ألف عام.. نعم ألف عام تفصل بين بارحة أحمد بن طولون مؤسس أول دولة مستقلة في مصر وبين يوم محمد علي مؤسس آخر دولة مستقلة في مصر.
تشابهت الظروف واختلفت الأحداث بين تأسيس أول دولة مستقلة في مصر عام 254 هـ بعد الفتح الإسلامي وبين آخر دولة على يد محمد علي باشا عام 1805م.. اختلف المؤسسان في نشأتهما.. وثقافتهما.. وظروف مجيئهما إلى مصر.. اختلفت أحداث عصرهما والشخصيات المعاصرة لهما؛ إلا أنهما اشتركا في مسرح واحد للأحداث هو أرض مصر المحروسة.
إنها رواية طويلة لم نكن نحن أبطالها أو حتى معاصرين لأحداثها بحلوها ومرها .. جزء من أحداث هذه الرواية طويت صفحاته منذ سنين بعيدة على يد الإخشيديين.. أما الفصل الأخير من الرواية فقد طويت صفحته على يد الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952، وبإلغاء الملكية في 18 يونية 1953م.
في الوقت الذي طويت فيه صفحات هذه الرواية، بقي لنا شهود عيان؛ شهود عاصروا تلك الرواية.. يرجع تاريخهم إلى ما يزيد عن ألف سنة.. إنهم آثار هذا العصر. فالأثر هو البطل الذي يستمر دوره في الأحداث باقيًا ببقائه على الأرض أو داخل قاعات المتاحف.. هو الجزء الذي يستمر ينبض بالحياة بعد وفاة صاحبه وانقضاء عهده.. يبقى الأثر حاملاً بين طياته ملامح العصر الذي ينسب إليه.. يترجم حال الواقع الذي أسس فيه. فمن يستطيع اليوم أن يوقف نبض كل ما هو إسلامي عربي داخل شوارع ودروب إسبانيا.. تلك الشوارع التي كانت في يوم مضى جزءًا من العالم الإسلامي، إنها دولة الأندلس التي خرج منها المسلمون وبقيت آثارهم شاهدًا على مجدهم هناك.
وفي مصر لم يختلف الأمر كثيرًا فقد تعاقب على حكمها ولاة وخلفاء وسلاطين، ذهبوا جميعًا وبقيت آثارهم.. فمنذ الفتح الإسلامي لمصر عام 21هـ/641م كانت مصر خاضعة لسلطة الخليفة عمر بن الخطاب ومن بعده عثمان بن عفان، ثم انتقلت التبعية إلى الخلافة الأموية ومن بعدها العباسية، وفي كل الأحوال كانت مصر خاضعة للخليفة أيًّا كان مقره سواءً في الكوفة أو بغداد أو سامراء أو القسطنطينية.. وكان الخليفة يرسل من ينوب عنه في حكم البلاد وإدارة شئونها وهو ما يعرف بـ "والي مصر".
كثير من الآثار التي تركتها لنا هذه الدول اكتسبت شهرة واسعة أكثر من غيرها وذلك لارتباطها بمجريات الأحداث التي وقعت في عصرها، ومنها الأثر الأكثر شهرة حتى الآن باب زويلة أو كما يطلق عليه البعض "بوابة المتولي" الذي زادت شهرته عندما علق المظفر قطز رءوس رسل التتار على مدخله، وأصبح هذا الأمر من الأمور المعتادة حتى قدر لهذا الباب أن يشهد نهاية العصر المملوكي في مصر بتعليق رأس السلطان طومان باي آخر السلاطين المماليك وإيذانًا ببداية حكم العثمانيين لمصر.
أما في رواية اليوم، فقد لعب الأثر دورًا بارزًا في تدعيم السلطة السياسية لصاحبه، فتبدأ الأحداث في عهد الدولة العباسية، عندما تولى ولاية مصر رجل تركي يدعى باكباك الذي فضل البقاء في بغداد إلى جوار الخليفة وفي بلاطه بدلاً من الإقامة في مصر، لذا قرر باكباك أن يرسل من ينوب عنه في إدارة شئون مصر، ووقع اختياره على ابن زوجته "أحمد بن طولون" وهو من الأتراك أيضًا  –الطبقة التي كانت لها السيادة زمن الدولة العباسية- فعمل ابن طولون على تدعيم مركزه السياسي والاقتصادي حتى استقل بحكم مصر وتولى شئونها هو وأولاده من بعده .. ثم مرت السنين وخلف دولة ابن طولون دول كثيرة؛ منها دولة الإخشيديين والفاطميين والأيوبيين والمماليك، وهي جميعًا دول مستقلة في ظل الخلافة العباسية (تبعية اسمية وولاء شكلي للخليفة) فيما عدا الفاطميين فقد كانت خلافة مستقلة تنافس الخلافة العباسية .. ثم انتقلت الخلافة من العباسيين إلى العثمانيين الذين عملوا على بسط نفوذهم على الولايات المختلفة وخضعت مصر للحكم العثماني عام 1517م. وعمل العثمانيون على إرسال الولاة إلى مصر من جديد وأصبحت مصر دولة تابعة لسلطان العثمانيين بعد أن كانت دولة مستقلة لها سيادتها.. إلى أن جاء إلى أرض المحروسة رجل ألباني الأصل قدر له أن يؤسس دولة جديدة؛ هو محمد علي باشا مؤسس الدولة العلوية عام 1805م؛ تلك الدولة التي انتهت بقيام ثورة 23 يوليو 1952م وتحولت مصر من بعدها إلى النظام الجمهوري.
مئات من السنين فصلت بين الدولتين.. دولة ابن طولون ودولة محمد علي.. ولكنها مئات من الأمتار التي فصلت بين جامع أحمد بن طولون وجامع محمد علي بقلعة الجبل (قلعة صلاح الدين الأيوبي). فعندما جاء ابن طولون إلى مصر نزل بدار الإمارة بالفسطاط، ولما استتب له الأمر في مصر وأحكم قبضة زمام الأمور، أخذ يستزيد من الجنود والعبيد فضاقت بهم الفسطاط. لذا شرع في تأسيس مدينة جديدة إلى شمال الفسطاط والعسكر ووقع اختياره على منطقة جبلية مرتفعة ليبني عليها مدينته واختط قصرًا كبيرًا لنفسه وأحاطه بميدان فسيح، ويشغل موضع القصر والميدان الآن قلعة الجبل، الأمر الذي يثبت إلى أي مدى كان ابن طولون موفقًا في اختياره لذلك المكان الذي دارت عليه الأيام وجاء صلاح الدين الأيوبي العسكري من الطراز الأول ليختار نفس الموضع لبناء قلعة حصينة تحمي القاهرة من هجمات أي معتدٍ.
أخذ ابن طولون في تقسيم المدينة الجديدة –القطائع- والقطائع عدة قطع يسكن فيها عساكره وغلمانه وعبيده، فكانت كل قطيعة لطائفة فيقال قطيعة السودان وقطيعة الروم، وكانت القطيعة بمثابة الحارات في القاهرة، وعمرت المدينة وفتحت فيها الأسواق والميادين. وشغلت القطائع مساحة ميل مربع، وكانت حدودها موضع قلعة الجبل إلى موضع جامع أحمد بن طولون، بما في ذلك منطقة الخليفة الآن وأرض طولون إلى منطقة السيدة زينب وحتى منطقة سيدي زين العابدين.
هكذا وضع ابن طولون أساس مدينته عام 256هـ/870م، بينما لم يضع أساس مسجده إلا في عام 263هـ/876م عندما ضاق جامع عمرو بالفسطاط بالمصلين فشرع في وضع حجر الأساس لمسجده فوق جبل يشكر، وجاء جامعه نموذجًا فريدًا في العمارة الإسلامية في مصر، وضاهى به ابن طولون عمائر الخلفاء العباسيين في سامراء التي نشأ وترعرع بها.. تميز الجامع بمساحته الشاسعة إذ بلغ ستة أفدنة ونصف، له مئذنة فريدة بين مآذن مساجد مصر تتميز بشكلها الحلزوني وسلمها الخارجي، وقد صممت على غرار مئذنة جامع أبي دلف وجامع سامراء.
بقي مسجد أحمد بن طولون بعد زوال دولة الطولونيين شاهدًا حيًّا على ما عاشته المحروسة في عصرهم من ترف وثراء بالغ ضاهى ثراء وترف الخلافة العباسية، فقد أفاض المؤرخون في وصف حياة البلاط الطولوني والرغد الذي ساد البلاد آنذاك.. روايات كثيرة نقلها المؤرخون بدقة بالغة في بعض الأحيان وبمبالغة شديدة في أحيان أخرى إلا أن ما وصلنا من الطولونيين جاء ليدعم ما أطنب فيه المؤرخون من وصف، فيكفي أن أحمد بن طولون أراد أن يبني مسجدًا يدل على قوته وثراء دولته لاسيما بعد حركة التوسعات الكبرى التي قام على إثرها بضم بلاد الشام وبرقة ووصل إلى تخوم العراق إلى مصر بعد أن كانت مجرد ولاية تابعة لحكم الخليفة العباسي؛ فلأول مرة القرار يصدر من مصر لينفذ وليس من دار الخلافة؛ مما أعطى لمصر شخصيتها المستقلة التي دعمها ابن طولون بعمائره التي نافس بها عمائر الخلفاء.
مرت السنين وتوالى الحكام على مصر، إلى أن جاء محمد علي باشا كقائد للفرقة الألبانية ليحرر مصر من الحملة الفرنسية ثم أخذ يدعم مركزه في البلاد وتولى ولايته بإرادة من الشعب في عام 1805م. وأقام أول الأمر في قصر الألفي بك في الأزبكية حتى استتبت له الأمور، وأخذ يتخلص من العوائق التي اعترضت سيطرته المطلقة على البلاد، وبدأ بنفي عمر مكرم ثم بالقضاء على المماليك في مذبحة شهيرة؛ لم يتبق من شهودها سوى الممر الصخري الذي شهد أحداث تلك المذبحة؛ ليقف بصمت شاهدًا على نهاية وجود المماليك في مصر، لاسيما وأن الحكم العثماني لمصر منذ عام 1517م لم يغير من طبيعية وجود المماليك سوى في أنهم كانوا يتولون حكم البلاد بأمر من السلطان العثماني وليس حكمًا مطلقًّا كما كان الأمر لهم من قبل، إلى أن جاء محمد علي وأدرك مدى خطورتهم في البلاد لذا تخلص منهم في عام 1811م.. وعندما أحكم محمد علي قبضته على البلاد أخذ يتوسع في حركة العمران؛ فجدد قلعة صلاح الدين التي أصابها التلف نظرًا لاتخاذ الفرنسيين منها ملجأً لهم أثناء وجودهم في مصر؛ فعمل على ترميم أسوار وأبراج القلعة وردم الإيوان الناصري وغيرها من المنشآت المتخربة، ثم بدأ في وضع حجر الأساس لمسجده الكبير داخل أسوار القلعة؛ وقد سجلت الوقائع المصرية في حوادث سنة 1244هـ/ 1828م وقائع وضع حجر أساس المسجد في حفل حضره محمد علي ابنه سعيد باشا وإبراهيم باشا وقاضي مصر وأعيانها وعلمائها، وذبحت الذبائح ووزعت على الفقراء ابتهاجًا لهذا الحدث.
إذًا ما الغريب في كل هذا؟ ما الغريب في أن يشيد ابن طولون مسجدًا بقي إلى الآن أكبر المساجد في مصر، وأن يشيد محمد علي مسجده داخل القلعة ليعد هو المعلم الأول البارز فيها لدرجة أن العامة درجت على قول قلعة محمد علي وليس قلعة صلاح الدين أو قلعة الجبل على الرغم من أن محمد علي آخر من أضاف وجدد بالقلعة؟!
لم  يكن الأمر من قبيل المصادفة في الحالتين .. بل أراد ابن طولون عندما أسس مسجده أن يكون أكبر مساجد مصر وأن يباهي به دولة العباسين ليثبت مدى الثراء الذي حققه في مصر، والدليل على هذا أن تخطيط الجامع وزخارفه المختلفة مقتبسة من زخارف مدينة سامراء حيث تربى ابن طولون وعمد ابن طولون على أن يشيد مسجده على غرار مساجد الخلفاء العباسين ليؤكد على استقلاله بمصر وأنه ليس بمجرد والٍ تولى أمور البلاد؛ لذا أنفق ببذخ على عمائره وقصره إدراكًا منه لقيمة المنشآت في تأكيد السلطة السياسية للحاكم.
الأمر نفسه تكرر مع محمد علي باشا عندما أراد تشييد مسجده داخل القلعة؛ حيث اختار أعلى موقع في القلعة ليكون مسجده علمًا بارزًا داخل المحروسة وليشرف على القاهرة كلها. وجاء تصميم الجامع ليحمل المعنى السياسي الصريح والغرض الأساسي من تأسيسه؛ فالقلعة لم تكن بحاجة إلى مسجد لوجود جامع الناصر محمد بن قلاوون على مقربة شديدة من جامع محمد علي.. وبالفعل كلف محمد علي المهندس المعماري باسكال كوست ليضع له تصميم مسجده وذكر باسكال كوست في مذكراته أنه عندما أوكل محمد علي إليه هذه المهمة أخذ في دراسة مساجد مصر وطرزها المختلفة ووضع تصميم الجامع على غرار المساجد المملوكية الطراز المميز لمساجد مصر ولاتزال الرسومات موجودة في مكتبة البلدية في مارسيليا. ولكن لا نعلم سبب عزوف محمد علي عن هذا التصميم وعن مشروع باسكال كوست. ولكن عندما اكتمل بناء المسجد جاء برسالة واضحة؛ فقد أسسه محمد علي على غرار المساجد العثمانية الكلاسيكية التي ترجع إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر وليس المساجد المعاصرة له في تركيا آنذاك، وكان تصميمه قريب الشبه من مسجد السلطان أحمد الثالث المعروف بالجامع الأزرق، وجامع الوالدة بصفية والدة السلطان محمد الثالث. وإن كان جامع محمد علي بالقلعة لا يتسم بنفس الدقة والرشاقة ورونق المساجد العثمانية الكلاسيكية.
إذًا تحول مشروع باسكال كوست المملوكي إلى جامع عثماني الطراز.. فكيف لمحمد علي أن يتبع في تصميم مسجده الطراز المملوكي عقب قضائه على المماليك في مذبحة أبادت وجودهم في مصر.. بل اختار وبعناية النظام العثماني ليكون رسالة حية تدعم مركزه السياسي الذي وصل إليه في البلاد وليثبت ولاءه الشكلي للخليفة العثماني. ويؤكد على قوته وسيطرته على مصر.

على أنقاض قصر ابن طولون وميدانه بنى صلاح الدين قلعته، وعلى أنقاض الإيوان الناصري المملوكي بنى محمد علي مسجده.. ومن جامع ابن طولون بشارع الصليبة إلى جامع محمد علي بقلعة الجبل لم يختلف الهدف كثيرًا؛ كلاهما حمل رسالة مؤسسيهما بوضوح ووقفا في شموخ شاهدَين لنا على فكر وثقافة مؤسسيهما؛ فهذا تركي وذاك ألباني.. والأرض هي مصر المحروسة.