بقلم: د. محمد جمال الشوربجي *
مقدمة:
في ظل ما تعانيه شوارع القاهرة اليوم من مخلفات وحجارة على جوانب الطرقات
وأحياناً في منتصفها مما يعيق سير المارة، هذا مع عجز الحكومة عن مواجهة هذا
الأمر، مما اضطرنا إلى الاستعانة بشركات أجنبية لتنظيف شوارع القاهرة من القمامة
حتى قال أحد العوام متهكماً: "القاهرة مدينة الألف مقلب" وهو في مقولته
هذه يعرض بالمقولة القائلة: "القاهرة مدينة الألف مئذنة"، وهذه المقولة
تصور لنا حال شوارع القاهرة في يومنا هذا، وهنا أردت أن أعود للوراء قليلاً لأرى
حال شوارع القاهرة في العصر المملوكي، ودور الدولة حيال نظافتها وإصلاح طرقها
لعلنا نعرف شيء يساهم في إصلاح الواقع الذي نحياه.
إصلاح شوارع
القاهرة وتنظيفها في العصر المملوكي
(648-923هـ/1250-1517م)
اعتنى سلاطين المماليك بشوارع القاهرة، فعملوا على تجميلها بكنسها وإزالة
الأتربة المتراكمة عليها ورشها بالماء منعاً لإثارة الأتربة تحت إشراف المحتسب
ووالي القاهرة، ففي رجب783هـ/1381م قام نائب الوالي بقطع ما على الطرقات بالشوارع
من الأتربة بسبب علوها، ورميت بالكيمان([1])،
وفي سنة818هـ/1415م شرع والي القاهرة وأعوانه في جرف الرمال المتراكمة بين الجامع
الناصري بمصر وجامع الخطيري ببولاق، وقد استخدمت فيه مائة وخمسون رأساً من البقر
بالجراريف واستمر العمل ما يزيد على شهر([2]).
كما أمر الوالي في سنة829هـ/1425م الناس أن تقطع ما ارتفع من الطريق أمام
بيوتهم وحوانيتهم ويرموه بمنطقة الكيمان خارج القاهرة، فقاسى الناس الشدائد بسبب
ذلك إلى أن صدر أمر بالتوقف([3])، فلما تولى الأمير دولات خجا الظاهري ولاية
القاهرة أصدر أوامره في سنة 835هـ/1431م بكنس الشوارع، ورشها بالماء في كل يوم،
وعاقب الناس على ذلك فامتثلوا أمره([4])،
وكان أمر تنظيف الشوارع يزداد عند مرور السلطان من هذه الشوارع، وهذا الأمر لازال
يحدث حتى يومنا هذا، ففي ذي الحجة سنة793هـ/1390م أمر الوالي العامة بتنظيف طرقات وتبييض
الدكاكين بسبب دخول السلطان القاهرة([5]).
ويبدو أن القليل منها شوارع
القاهرة كان مرصوفة بالحجارة، والدليل على ذلك أن السلطان كان كثيراً ما يأمر بجرف
الأتربة من الشوارع ونقلها إلى الكيمان خارج المدينة، ففي سنة843هـ/1439م أمر
السلطان جقمق(842-857هـ/1438-1453م) بتجريف جميع الأتربة التي تحت القلعة، وجرفت
أرض ميدان الرميلة أيضاً، ونقلت الأتربة إلى الكيمان([6]).
كما أمر السلطان في سنة
846هـ/1442م بإصلاح الطرقات والشوارع، فألزم والي القاهرة أصحاب الحوانيت والدور
المطلة على الشوارع بقطع ما بأمام أملاكهم من الأتربة بمقدار حدده لهم، وهذا هو
مقصودنا من أن شوارع القاهرة لم تكن كلها مرصوفة، ويبدو أن الوالي كان سيئ التدبير،
فتوعرت الطرق لقطع بعضها دون البعض، وقاسى المارة وعلى رأسهم الشيوخ وضعفاء
الأبصار غاية الضرر وبخاصة في الليل، ثم أبطل السلطان ذلك وبقيت الشوارع وعرة إلى
أن تم تسويتها([7]).
وهنا نلحظ أن الدولة لم تكن مسئولة مسئولية كاملة عن تنظيف الشوارع
وإصلاحها، بل كانت العامة تتحمل جزء من ذلك، فالدولة تأمر بتنظيف هذا المكان
وإصلاحه والعامة تقوم بذلك والدولة تشرف على سير العمل وبخاصة إذا كان الأمر مرتبط
بتوسعة الشوارع وإزالة الأبنية المخالفة فيها، وهذا على عكس ما نحن عليه اليوم حيث
تقع المسئولية كاملة على الدولة، فقد أنشأت وزارة لهذا الأمر سميت باسم وزارة
البيئة، وبالرغم من ذلك لم تفلح في حل مشكلة النظافة، وهذا يرجع إلى تخلي العامة
عن القيام بدورها، فهي ترمي والدولة تجمع، ولو تحملت العامة جزء من المسئولية كما
كان الحال في الدولة المملوكية لحُلت المشكلة.
وفي إطار المحافظة على الشوارع منع المحتسب دخول أحمال الحطب والتبن،
وشرائح السرجين أي أقفاص الزبل والتراب وما يشبه ذلك إلى الأسواق لما في هذا ضرر
على ملابس الناس، وتلويث لنظافة الشوارع بها، ونشر للروائح الكريهة بها([8]).
وقد انعكست الزيادة السكانية
والعمرانية على الشوارع والممرات فضاقت بسبب المصاطب وغيرها مما تسبب في إيذاء
المارة، وإلحاق الضرر بهم، وكان لابد من أن يُوسع على الناس الطريق، وذلك بهدم
الزيادات والإضافات الغير شرعية، وقد حصل هذا في عهد السلطان الأشرف أينال العلائي(ت:865هـ/1460م)
الذي قام بتوسيع الشارع الذي بين القصرين([9]).
كما أمر السلطان قايتباي الأمير يشبك من مهدي الدوادار في سنة881هـ/1476م بإزالة
ما تحت شبابيك المدرسة المؤيدية من جهة باب زويلة من الأخصاص لتوسعة الشارع، وكذلك
فعل بالمدرسة الأشرفية وغيرها، وأصبح من السهل على المارة السير في هذا الشارع دون
مشقة([10]).
لكن المشروع الأكبر في أمر تنظيف شوارع القاهرة وإصلاحها هو ما تم على يد
الأمير يشبك من مهدي في سنة882هـ/1477م عندما شرع في توسيع الطرقات والشوارع
والأزقة، وقطع ما بها من أتربة بعد أن ارتفع مستوى سطح الشارع جداً، وذلك بعد حكم
القاضي فتح الدين السوهاجي -أحد نواب الشافعية- بهدم ما وُضع في الأسواق والشوارع
بغير طريق شرعي من أبنية وحوانيت ومصاطب وغير ذلك، واستمرت إزالة المخالفات حتى
سنة883هـ/1478م ولاسيما في الأماكن المطلة على الشوارع الرئيسية فاتسعت
الشوارع، ولكن تضرر في هذا جماعة من الناس بسبب هدم ربوعهم وحوانيتهم، وهُدم لابنة
الناصر فرج بن برقوق ثلاثة ربوع، فاضطربت الأحوال في القاهرة في هذه الفترة، ومقت
الناس القاضي السوهاجي غاية المقت بسبب ما حدث لهم([11]).
كما أمر يشبك في نفس العام بتبييض
الدكاكين ووجوه الربوع المطلة على الشوارع، وعين شخص من أبناء الناس، وجعله المشرف
على أمر إصلاح هذه الطرقات، فصار يستحث الناس في سرعة البياض، كما قلع الأمير يشبك
العتبة التي كانت أمام باب زويلة وأصلحها وعلاها ومهد الطريق أمام هذا الباب([12]).
وقد أثار هذا الأمر حفيظة رجال الدين وبحثوا عن الحكم الشرعي لهذا الأمر،
فوضع أبو حامد المقدسي(ت:888هـ/1483م) رسالة في هذا سماها" الفضائل النفيسة
الباهرة في بيان حكم شوارع القاهرة في مذاهب الأئمة الأربعة"، وخلص من بحثه
في المذاهب الأربعة إلى أن ما قام به الأمير يشبك من الهدم لهذه الحوانيت ونحوها
البارزة في الشوارع والأسواق وتضيقها على المارة من المسلمين وغيرهم بدوابهم
ونحوها فعل جائز شرعاً، "ولو قلنا باستحبابه بل بوجوبه لم يكن بعيداً لأنها
وضعت بغير حق، فهي واجبة الإزالة من حين بنائها([13]).
هذا إذا اقتصروا على هدم ما زاد ولم يتجاوز الحد الذي ذكرناه، وأما إذا تعدوا ذلك
وهدموا مالا يستحق الهدم شرعاً بل لمجرد هوى النفس ليضئ المكان، فلا شك أن ذلك
حرام مطلقاً، ولا يجوز لأحد الإقدام عليه ولا الأمر به ولا الإعانة عليه لما فيه
من الضرر للمسلمين من هدم مساكنهم وإضاعة أموالهم، وخصوصاً هدم أوقاف الضعفاء من الأيتام
والمحتاجين من الفقهاء"([14]).
كما علق السخاوي على نتائج هذا المشروع بقوله: "وتوعرت الطرقات لكثرة
الهدم والأتربة، وتضرر المارة بذلك، وعطب كثير من الناس والبهائم، واستمر الأمر
كذلك حتى صلحت الشوارع ووسعت، وهدم لذلك الكثير من الدور والحوانيت بحق وبغير حق،
ونُدب بعض قضاة السوء لذلك والحكم به"([15])
يقصد بذلك القاضي السوهاجي ومن أيده.
وارتبط بنظافة الشوارع تطهيرها من النجاسات، وبخاصة الكلاب التي زاد عددها
بصورة كبيرة في القاهرة، فأمر السلاطين ولاة القاهرة بإمساكها ونفيها إلى الجيزية
حتى لا تستطيع العودة مرة أخرى إلي القاهرة لوجود نهر النيل كما حدث في سنة781هـ/1380م([16])،
وسنة841هـ/1437م([17]).
المصادر والمراجع:
ابن إياس(محمد بن أحمد الحنفي
ت:930هـ/1524م): بدائع الزهور في وقائع الدهور، ج1، ق2، تحقيق: محمد مصطفى، (الهيئة
المصرية العامة للكتاب، 1984م).
ابن حجر(شهاب الدين أحمد بن على العسقلاني
ت:852هـ/1442م): إنباء الغمر بأنباء العمر، ج3، تحقيق: حسن حبشي، (المجلس الأعلى
للشئون الإسلامية، 1972م).
ابن تغري بردي(جمال الدين أبو المحاسن يوسف
ت:874هـ/ 1469م): النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ج11، (الهيئة العامة لقصور
الثقافة، (د.ت).
السخاوي(شمس الدين محمد بن عبد الرحمن ت:
903هـ/1497م):
- الذيل التام على دول الإسلام،
حوادث(851-897هـ)، تحقيق: حسن إسماعيل مروة، (دار ابن العماد،
1992م).
- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، ج2، (دار
الجيل،1992م).
- التبر المسبوك في ذيل السلوك، ج1، تحقيق:
لبيبة إبراهيم مصطفى، ونجوى مصطفى كامل، (دار الكتب والوثائق القومية، 2003م).
ابن شاهين(عبد الباسط الحنفي الظاهري
ت:920هـ/1514م): نيل الأمل في ذيل الدول، ج2، تحقيق: عبد السلام تدمري، (المكتبة
العصرية، 2002م).
الشيزري: نهاية الرتبة في طلب الحسبة، تحقيق:
السيد الباز العريني، (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1946م).
الصيرفي(على بن داود ت: 900هـ/1495م): نزهة
النفوس والأبدان في تواريخ الزمان، ج3، تحقيق: حسن حبشي، (دار الكتب المصرية،
1971م).
المقدسي( أبو حامد محمد بن خليل ت:888هـ/1483م): الفضائل النفيسة الباهرة في بيان حكم شوارع
القاهرة في مذاهب الأئمة الأربعة، تحقيق: محمد إبراهيم النملة، (مجلة العصور، مج3،
ج2، 1988م).
المقريزي(تقي الدين أحمد بن علي ت:
845هـ/1442م): السلوك لمعرفة دول الملوك، ج3، ق2، تحقيق: سعيد عبد الفتاح عاشور، (دار
الكتب المصرية، 1971م).
الهوامش: