جديد المقتطف

الثلاثاء، 13 أكتوبر 2015

يوميات جندي في حرب الاستنزاف (1/ 3)

بقلم الباحث/ مصطفى محمود علي..

هناك لحظات في عمر الوطن لا تنسى صنعها أبطال وفرسان العسكرية المصرية، التي أبهرت العالم في شتى عصوره، فالجندي المصري هو الذي انتصر على الهكسوس، وهو نفسه الذي انتصر في معركة رفح سنة 217 (ق.م) وهو نفسه الذي ثار على الطغاة في كل عصر ومصر، فهو الذي رد كيد التتار وهزمهم شر هزيمة، وانتصر على الصليبيين الذين عاثوا في الأرض فساداً، وهو نفسه الذي انتصر على العدو الإسرائيلي الغاشم عام 1973م، ليسجل لنا التاريخ عظمة هذا الجندي وقدرته على خوض المعارك، وتحقيق الانتصارات في أصعب المواقف، مُدافعاً ومحافظاً على الوطن، ومهما تحدث المتحدثون في وصفه ومحاولة رسم لوحه فنية له، لن يبلغوا ما يستحقه من الإشادة والتكريم، فتحية خالدة للجندي المصري - خير أجناد الأرض.

ومن هذا المنطلق؛ نحاول أن نلقى الضوء على حياة أحد الأبطال الجنود الذين كان لهم نصيب من الخوض في الملحمة المصرية في 1967م، والملحمة الكبرى في 1973م، فهؤلاء هم من صنعوا التاريخ وهم المحرك الأساسي له، فالتاريخ لا يقتصر على القادة السياسيين والشخصيات العامة فحسب، بلْ ظهرت حديثاً بعض الاتجاهات التي تؤرخ لحياة العامة والمهمشين والمجرمين والبغايا.. وحياة العساكر ويومياتهم.
 ويتمحور حديثنا هنا حول وقائع ومشاهدات رآها صاحبها وعايشها، وتذوق طعمها ولذة انتصاراتها، ومرارة هزيمتها، إنه الجندي المحارب والبطل الجسور "جمال محمد عبد العال" أحد أبطال حرب 67 و 73، الذى ولد فى قرية (نزلة ضاهر) التابعة لمركز ديروط بأسيوط فى الخامس من ديسمبر عام 1943م..
يقول هذا الجندي: "أسعد لحظات حياتي عشتها في الجيش في العشر سنين اللي قضيتهم فيه"، فتاريخه العسكري يبدأ من 1/5/1966م، وينتهي في 1/10/1975م، عشر سنين وما يزيد قضاها هذا الفارس منافحاً عن الوطن، بجوار زملائه وأصدقائه الذين تحملوا آلاماً لا توصف، ولا يمكن أن يتخيلها عقل، آلام ممزوجة بهموم وأوجاع الوطن، ولمْ تكن معظم هذه الآلام حسية بلْ كانت معنوية أيضاً، فكان يحمل هم بلده ومستقبل أولاده والأجيال التالية، لذلك عندما يتحدث إليك تشعر بإحساس غريب من نوعه، لا أستطيع وصفه لكن يمكنني أنْ أعبر عنه بأنه: إحساس بالمسؤولية والتضحية بالنفس لأبعد حدود، فهم لا يهابون الموت بلْ يقحمون أنفسهم فيه، فى سبيل الوطن، وهو يعلم علم اليقين أنه إذا مات فإلى الجنة، لذلك كان الموت أو النصر هما المسيطران على المشهد، وفى مخيلته أيضاً.
كان عام 1966م عاماً فاصلاً في مسيرته الحياتية، إذْ في الأول من مايو دخل الحياة العسكرية، ضمن سلاح مشاه ميكانيكي، ولم يمضِ عام حتى وقعت النكسة، فخاض غمار حرب الاستنزاف بداية من عام 1967م، وله فيها مواقف وبطولات مشهودة، وبمجرد صدور الأوامر بالعبور، يقول في لهجة عامية: "أنا عبرت فى أول ثانية"، لأن موقعه كان على الضفة الغربية للقناة، فهم أول من عبروا القناة بالعربات البيكية.
أهوال عاشها هذا المحارب ومع أنَّ عمره  يتجاوز 72 عاماً؛ إلَّا أنَّ ذاكرته قوية جداً ويعلق على ذلك: "ذكريات الجيش والمعركة محفورة في عقلي وقلبي لا تنسى"، خمس سنين قضاها بطلنا في حرب الاستنزاف حتى حرب أكتوبر، ومازالت مشاهد الحرب وأحلامها في عقله، ويسجل شهادته على هذه المرحلة المُهمة، فيقول عن 67 بلهجته المعهودة: عرفنا إن هنحارب وانتقلنا من الوحدات إلى صحراء سيناء، داخلين المعركة حتى وصلنا الحسنة - بعد العريش - الساعة 5 صباحاً، عشان نضرب إسرائيل وحصلت قفله مع القيادات السياسية، لأن كان المفروض أن عبد الحكيم عامر يضرب إسرائيل الساعة 5 الصبح .. وتطورت الأمور السياسية التي أدت بعبد الناصر لإصدار أمر بوقف القتال والعودة، هذا الكلام اللي إحنا سمعناه في الجيش .. حكيم قالوا مش هوقف الحرب لأني هضرب إسرائيل، دا نور إسرائيل كنا شايفينوا بعنينا، وقبل ما يضرب إسرائيل بالدبابات .. راح واقف الضرب فحصلت القفلة بين القيادة مع بعض".
سألته هل قمتم بتنفيذ أمر الانسحاب أم دافع الوطنية وتحرير الأرض كان مسيطر عليكم؟ قال: "رغم إن كان نفسنا نحارب بس جانا أمر من القيادة العليا للقوات المسلحة، على جميع القوات المسلحة تترك سلاحها وترجع للخلف"، فسألته مرة ثانية يعني محصلش ضرب؟ قال: "لا لأن لو حصل ضرب مكنتش إسرائيل دخلت عندنا يا عم الحج، لأن جيشنا كله كان موجود بما فيه جيشنا اللي كان في اليمن .. لم يحدث حرب في 67 إطلاقاً".
كانت رحلة العودة من سيناء شاقة للغاية وتحملوا فيها آلاماً عظيمة، وأهوال تشيب منها الولدان، 11 يوم سائراً على قدميه من الحسنة في أقصى الحدود المصرية الشرقية إلى السويس، ويعلق على هذه المأساة التي تعرضوا لها: "العساكر الأبطال كانوا ماشيين بالجوع والعطش، وكنا بنعيش على الأعشاب الصحراوية وورق الشجر إن وجد، ومص الزلطة – قطعة حجر صغيرة ملساء - تحت اللسان"، والأمَر من ذلك أن وصل به الحال إلى أن (شرب بوله) من قله الماء وعدم وجوده.
أمَّا الفاجعة الكبرى من وجهة نظره أنَّ بعض الضباط لمْ يكونوا يقفون لهم ليقلوهم بسياراتهم الجب ويقول: "والظابط يبقى راكب العربية الجب ولو قابل حد فى الطريق ياكلوا بالعربية، عشان جاله أمر بالانسحاب"، وهذا الشعور صادق للغاية، لكن يعذر الضباط مع وجود الآلاف من العساكر وقلة المركبات فربما كان الضابط يحمل معه ما يستطيع من العساكر، بالشكل الذي لا يؤثر على المركبة حتى يستطيعوا الوصول بسلام، نظراً لوعورة الطريق وقلة البنزين، بينما يؤكد على هذا الكلام قائلاً: "هاتلى أيّ قيادة وأنا أقولها الكلام ده .. وهذا الكلام على مسؤوليتي وأنا تحت أمره فى أيّ نقاش".
*   *   *
كان اليوم الذي استشهد فيه القائد الميداني القدير الفريق أول/ عبد المنعم رياض في التاسع من مارس 1969م، يوماً عصيباً على الجنود المقاتلين فقد كان لهم القدوة والمثل الأعلى في النضال، هذا القائد الجسور ذو المواقف المشرفة كان يباشر الحرب بنفسه، وسط أبنائه من الضباط والجنود، يقول عنه جمال محمد: "الله يرحمك يا عبد المنعم رياض مات جنبينا في جزيرة البلاح"، حيث كان يشرف على تنفيذ خطة أعدها الجيش لتدمير خط بارليف.
خمس سنين قضاها بطلنا في مواجهة العدو، حفروا خلالها الخنادق وبنو الدشم والملاجئ من السويس إلى بورسعيد، ومكث عاماً في رأس العش في حرب شرسة مع العدو، ولفترة طويلة كان ينام في المياه في الملاحات على أرضية خشب، فقد كانت المياه من أسفلهم والنيران من فوقهم، ولا يأبهون لذلك أبداً بلْ كانوا أبطالاً يرهبون العدو بصيحات الله أكبر، وتأتى قوتهم من عند الله فمن يقوى على حرب مستمرة 24 ساعة، على مدى سنوات طويلة إلَّا بمؤازرة ربانية وعناية إلهية.
حكايات كثيرة ومشاعر فياضة، فطيلة المعركة من 67 إلى 73، وبالأخص الفترة الأولى التي قضاها الجندي المحارب جمال محمد، يستشعر هذه الذكريات بعد مرور أكثر من 42 عاماً قائلاً: "في الفترة أيام المعركة وأيام الحرب وفترتهم اللي طالت 7 أو 8 سنين، كان الإنسان فيه روح في السما كان بيدافع عن أرض، ووطن، وأولاد .. والعدو يا يموتنا يا نموتوا، أنا بحارب على ديني ووطني وبلدي، كان الضابط والعسكري واحد، لم يكن الضابط يقول يا عسكري تعالى ولا أعمل ولا أكنس ولا يديلو شلوت، لكن يقوله يا فلان يا أبو فلان أزيك تعالى، كان بيقعد ياكل معاه، كان كله شخص واحد مفيش ضابط ولا عسكري، كان كله قيادة، كان كله احترام وأدب، وكانت روحه فى السما طوال أيام المعركة".
وعندما سألته هل انتابكم شعور بالخوف؟ قال: إطلاقاً إحنا كنا داخل المعركة وبنحارب وبنتعامل مع العدو بالصواريخ والأسلحة مباشرة، وكان كل واحد حاطط سماعة الراديو فى ودانه، ويسمع بلده بتقول إيه، وإحنا اللي دايرين المعركة .. كلمة قلناها لبعضينا العدو أمامك والبحر خلفك – قناة السويس – يعنى لو رجعت ميت لو عديت لقدام ميت شهيد فى سبيل الله .. كان يوجد حراسة ورانا من الخلف، كان اللي يرجع ينضرب بالنار، لأنى مينفعش ده معناه منسحب، راجع ليه؟ ده العدو أمامك، راجع عند أمك مينفعش، وفى الحقيقة كنا نسير للأمام ونقحم أنفسنا فى المعركة من أجل تحرير الأرض".

ونتوقف هنا لنستكمل في الحلقة الثانية شهادته عن موقعة (إيلات) مساء يوم 21/10/1967، ثم يومياته في حرب أكتوبر المجيدة...