جديد المقتطف

الجمعة، 13 نوفمبر 2015

الحراك الشعبى عقب إلغاء المعاهدة المصرية البريطانية عام 1951

بقلم: نسمة سيف الإسلام.

عندما نتحدث عن دور المجتمع المدني في صنع السياسة، يتبادر إلى الذهن فوراً الشريك الآخر والأساسي في عملية صنع السياسة وهو الدولة. فعملية صنع السياسات من المهام الأساسية لأي دولة. 

لا تنطلق العملية السياسية من فراغ، فهي عملية ذات طابع ديناميكي ونتاج تفاعل أطراف عديدة حكومية وغير حكومية، داخلية وخارجية، فهناك إقرار أن للجماعات المنظمة في المجتمع دوراً أساسياً في عملية صنع السياسة سواء من خلال صراعاتها مع بعضها البعض، أو مع الدولة في سبيل التأثير على عملية صنع السياسة، ومن هذا المنطلق نجد أن المجتمع المصرى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية كان يموج بحركة قوية من الحراك الاجتماعى الناتج عن التغيرات والاضطرابات السياسية والاقتصادية التى أعقبت الحرب علي المستوي الاقتصادي ظلت الأسعار ترتفع علي الأقل بمقدار الثلثين منذ 1939 دون أن تظهر أي إشارات بالإنخفاض، بينما ظلت الأجور ثابتة، بالإضافة إلى الأعمال المرتبطة بالحرب والتي انتهت بنهايتها مما أدي إلى تعرض 300 ألف فرد لخطر البطالة الأمر الذي أدى إلى أن يعقد الفقراء أمالهم الوفد لتحسين التدهور في الأوضاع.
وكان من نتائج تدهور أوضاع الريف المصري في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وازدياد حدة الخلل في توزيع الثروات الزراعية، أن كثرت المصادمات بين الفلاحين من جهة وكبار الملاك والسلطات من جهة أخري، ففي عام 1948، اصطدم أهالي كفر البرامون مع البوليس نتيجة تظاهراتهم ضد رفض عمدة المنطقة عملهم في المناطق المجاورة بأجور أعلى من المنطقة. وبالإضافة إلى مثل تلك الحالات من الرفض الشعبي، حدث نشاط كبير لدعوات المشاركة في التنظيمات الأيدولوجية سواء (الشيوعيين أو الإخوان)، فقد شهد عام 1948 أول قضية نشاط شيوعي بين الفلاحين بقرية طناح، فضلاً عن النشاط الكبير للصحف فى التوعية. واستمرت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في ذلك التدهور حتى عام 1950، وبالتحديد في الثالث من شهر يناير عندما تم عقد الانتخابات التي أسفرت عن عودة حزب الوفد للحكم وكانت الأمال معقودة على هذه الحكومة لتحسن أوضاع البلاد ففضلاً عن أمال الفقراء في تحسن الأوضاع على يد حكومة الوفد كان رجال الإدارة يرحبون بعودة الوفد للحكم نظرا لما عانوه من حكومات الأقليات. وبالفعل حاولت حكومة الوفد القيام بمحاولات إصلاحية، فقد أولت اهتماما كبيرا بتحسين الأوضاع الاجتماعية فوضعت كادرا جديدا للموظفين لرفع مستواهم، كما أنشأت ديوان الموظفين وأصدرت حكومة الوفد الأخيرة قانون غاية في الأهمية وهو قانون مجانية التعليم في جميع مراحلة ما عدا الجامعي منه لرفع متاعب التعليم عن كاهل الأسر المصرية.
ولكن فشلت هذه المحاولات الإصلاحية فى ظل وجود الاحتلال البريطانى، كما فشلت محاولات التفاوض مع الإنجليز، فاستأنفت الحكومة الوفدية مباحثتها مع الجانب البريطانى بعد شهرين فقط من تشكيلها، وقد استمرت هذه المباحثات لنحو تسعة عشر شهرا (مارس 1950- أكتوبر 1951)، وتأكد من خطاب وزير الخارجية البريطانى (هربرت هوريسون) فى مجلس العموم بتاريخ 30 يولية عام 1951 مدى إصرار الحكومة البريطانية على استمرار الاحتلال البريطانى لمصر، وتسويغ ذلك بإدعاء بريطانى جديد وهو أن بريطانيا تحمل مسئوليات فى الشرق الأوسط بالنيابة عن باقي دول الكومنولث، وعن حلفاء الغرب جميعا، فكانت نتيجة المفاوضات صادمة لحكومة الوفد والشعب المصري بأكملة وانتظرت حكومة الوفد بعد هذا الخطاب لمدة تقارب الشهرين ثم رأت أن الرد الأمثل على التعنت البريطانى هو إلغاء معاهدة 1936. وذلك على الرغم من المقترحات التى تقدمت بها دول أخرى وتحذيرات الحكومة البريطانية.
المجتمع المصرى عقب إلغاء معاهدة 1936:
وفي الثامن من شهر أكتوبر عام 1951 أثناء اجتماع البرلمان بمجلسيه (الشيوخ والنواب) أعلن النحاس باشا الغاء معاهدة 1936 وجميع القوانين والامتيازات المترتبة عليها وختم النحاس بيانه الطويل قائلا: "لقد وقعت هذه المعاهدة في سبيل مصر، واليوم الغيها في سبيل مصر"، وسط تأييد من جميع أعضاء البرلمان على الرغم من اختلاف بعضهم مع حكومة الوفد، إلا إنهم اتحدوا حول هذا القرار، وكان الخلاف فقط حول وجود الاستعدادات الكافية لتنفيذه، وحتى الملك فاروق على الرغم من بداية نشوب الخلاف مع الوزارة وافق على مراسيم إلغاء المعاهدة فور عرضها عليه، وقامت الحكومة بفتح اعتماد مالى لمساعدة العمال الذين يتركون العمل بمعسكرات الجيش البريطانى بمطقة قناة السويس، وعلى الرغم من أن كان من أهم أهداف الحكومة الوفدية من وراء القرار كسب تأييد وشعبية لها على حساب الجماعات السياسية الجديدة (الإخوان والشيوعيين والاشتراكيين) إلا أن هذا القرار فتح باب العمل الفدائى، وفتحه أيضا أمام هذه الجماعات لنشر أفكارها بصورة أوسع، فكان لجماعة الإخوان المسلمين مشاركة فى أعمال المقاومة، بالإضافة إلى مساهمة العديد من المنتمين إلى الحزب الاشتركى المصرى برئاسة أحمد حسين.
وقد بث ذلك الإلغاء في أهالى مدن القناة روح المقاومة ضد الاحتلال البريطانى، فبدأت على الفور أعمال المقاومة السلبية فأقلع عمال الشحن والنفريغ فى السويس وبورسعيد عن تفريغ وشحن السفن البريطانية، وانسحب العمال من العمل في المعسكرات والورش البريطانية وضحوا بأجورهم على الرغم من سوء أوضاعهم، وحتى التجار وأرباب الحرف المختلفة فى مختلف أنحاء البلاد أوقفوا التعامل مع  القوات البريطانية. وبلغ عدد العمال الذين تركوا العمل فى المعسكرات البريطانية منذ إلغاء المعاهدة فى الثامن أكتوبر وحتى الأول من نوفمبر 1951 تسعة ألاف عامل، وهو أكبر عدد فى  كل مدن القناة، وكان لطلاب الجامعات المصرية وتشمل جامعة الأزهر وجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا) وجامعة إبراهيم باشا باشا (الإسكندرية حاليا) دور كبير فى المشاركة سواء بالخروج فى مظاهرات حاشدة أو التطوع في كتائب المقاومة أو توصيل المؤن والأسلحة، وكذلك تعاون البدو فى سيناء مع الفدائيين وسهلوا لهم عمليات التسلل ونقل الأسلحة الزائدة من غربى قناة السويس إلى سيناء لتخزينها فى مواقع سرية، وشملت مظاهر التلاحم الشعبى أيضا مشاركة عدد من ضباط الجيش منهم على سبيل المثال جمال عبد الناصر ومحمود رياض وعبد الحكيم عامر فى تدريب الفدائيين على استعمال الأسلحة والعمليات العسكرية وتزويدهم بالسلاح والذخيرة، واستعانوا بطلاب كلية الهندسة في إعداد الألغام، فضلاً عن المساهمات التى قدمتها الحكومة.
وأما الاحتلال البريطانى فقد كان رد فعله على إلغاء المعاهدة والمقاومة الشعبية فى منطقة القنال عنيفا، بداية من دخول مدن القناة واحتلال بعض مناطقها وأعمال القمع الشديدة لأهالى المنطقة، ووصلت إلى أقصاها عندما أصدر الجنرال "أرسكين" القائد العام للقوات البريطانية عقب هجوم قوات المقاومة الشعبية على نقطة تموين التل الكبير، وعلمه باشتراك بلوكات النظام (قوات البوليس الاحتياطية) قرارا بتلقينهم درسا لن ينسوه – على حد تعبيره- وفى الخامس والعشرين من شهر يناير تم حصار قيادة البوليس فى الإسماعيلية منذ الساعة السابعة صباحا، وتم توجيه إنذار لهم بتسليم أسلحتهم والاستسلام، ولكن قاومت قوات البوليس بكل شجاعة حتى الساعة الحادية عشرة حتى توفى أربع وستون جنديا منهم، ولم تقتصر أعمال المقاومة عند هذه النقطة فحسب، فقد شهدت مصر بأكملها مظاهر مقاومة وتلاحم شعبى ضد الاحتلال البريطانى، ومنها سقوط بعض الساء شهيدات أمثال السيدة "أم صابر" من مدينة أبى حماد و"سيدة البندارى" من مدينة التل الكبير، ومساهمة عدد كبير من النساء العاملات والممرضات فى تكوين "اللجة النسائية للمقاومة الشعبية"، وذهبن إلى منطقة القناة واشتركن فى المعركة هناك، سواء بتضميد الجرحى أو بالقيام بالإسعافات الأولية وإعداد الطعام والمساعدة فى توصيل الأسلحة، وعلى المستوى الفنى أصدر الفنان إسماعيل يس بيانا يوم 24 أكتوبر 1951 يعلن فيه إلغاء حفلته الفنية فى حديقة الأزبكية تضاما مع الأعمال الفدائية ضد الإحتلال البريطانى.

ويتضح مما سبق أن المشاركة المجتمعية فى تاريخ مصر لم يقتصر دورها على المشاركة فى الأعمال الاجتماعية فقط، وإنما برز دورها فى تحريك الأحداث السياسية والمشاركة فيها بصورة فعالة.