بقلم: ناهد زيان
ملجأ الحرية بالقاهرة، هو في
الأساس كان فكرة لمشروع اجتماعي كبير، نادى به الدكتور عبد العزيز نظمي طبيب
الأطفال المعروف في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، والذي كان أول من اهتم
بصحة الطفل، ودعا لحمايته من الأمراض، بزيادة الوعي الصحي، والثقافة الصحية،
وإنشاء المستشفيات، والمؤسسات التي توفر للأطفال رعاية صحية يحتاجونها، فكان أن
ساهم بدور كبير في إنشاء جمعية رعاية الأطفال بمصر، وما تبعها بعد ذلك، من عيادات
ومستوصفات ومستشفى حققت شهرة واسعة وجهدا ملموسا.
ثم في عام 1919 دعا الدكتور عبد
العزيز نظمي إلى إنشاء ملجأ الحرية، ليسع في رحابه الأطفال المشردين في شوارع
القاهرة والأيتام أيضا، فعمل على اجتذاب اهتمام ومشاركة الأثرياء وأهل البر والخير
من خلال حفل أقامه بالأوبرا في 16 مايو 1919، دعي له جمع كبير من الوجهاء والأدباء
والشعراء فأنشد كل من شوقي وحافظ إبراهيم شعرا في امتداح فكرة الملجأ ومدى حاجة
الأطفال له. ومما قاله حافظ إبراهيم:
يا رجال الجد هذا وقته
آن أن يعمل كل ما يرى
ملجأ أو مصرف أو مصنع
أو نقابات لزراع القرى
أنا لا أعذر منكم من ونى
وهو ذو مقدرة أو قصرا
فبدأوا بملجأ الحر الذي
جئت للأيد له مستمطرا
واكفلوا الأيتام فيه واعلموا
أن كل الصيد في قلب الفرا
* * *
وفي أواخر ذلك العام اجتمعت اللجنة
التحضيرية لمشروع الملجأ، واعتمدت القانون الأساسي واللائحة الداخلية له، لتبدأ
بعد ذلك في خطوات إنشائه التي كانت مرتكزة بالأساس على التبرعات ودعم المشروع
ماديا وأدبيا من خلال الجمهور.
وعلى الفور استجاب البعض لفكرة
مشروع الملجأ فتبرعوا له سواء أكانوا من أمراء الأسرة العلوية كالأميرة قدرية حسين
والأمير يوسف كمال، أو كانوا من المواطنين العاديين.
ونظرا لأن موضوع الأطفال المشردين
في شوارع القاهرة كان أمرا لافتا للنظر وداعيا للتحرك فقد تعجل البعض افتتاح
الملجأ وبدء عمله. ولهذا فقد حاولت اللجنة المسؤولة عن الملجأ أن تحصل على دعم
الحكومة ومساعدتها لكن دون جدوى. فكان أن اقترح البعض عليها أن تقيم سوقا خيريا
يخصص دخله لمشروع ملجأ الحرية. واقترح آخر أن تضع لجنة الملجأ صناديقا كصناديق
البوستة موضوع عليها صورة لطفل وطفلة من المشردين عليهم أسمال بالية ويظهر عليهم
الجوع والعوز ومكتوب فوق الصورة "أعطوا الفقير حقه".
وبالفعل نفذت فكرة السوق الخيري
ووقع الاختيار على محل الخواجة جبرائيل يارد وشركاه بشارع الموسكي، ومن ناحيتها
روجت الأهرام لهذا السوق على صفحاتها مرات عدة ودعت الجمهور للمشاركة ومساعدة
الملجأ. وعقدت السوق الخيري في أول مايو 1920 وحققت أرباحا بلغت 1067 جنيها، الأمر
الذي شجع على عمل سوق آخر بنفس المحل في أول يونيو من نفس العام.
وعلى اية حال، فقد أفتتح الملجأ
بداية عام 1921 نعرف ذلك من تاريخ دخول الأطفال إليه إذ أنه يظهر بوثيقة تحتوي على
قائمة عن أطفال ملجأ الحرية بمصر محررة في 4 يناير 1923 أن أول تاريخ لإلحاق أطفال
بالملجأ كان في 8 مارس 1921 الأمر الذي يدل على أن الملجأ قد أفتتح في تلك
الأثناء.
هذا وقد صار الملجأ يعرف بجمعية
ملجا الحرية. ومنذ البداية كان أطفال الملجأ خليط من أيتام الأبوين أو أحدهما
وأبناء السبيل (المشردين)، أو أطفال فقراء دخلوا الملجأ بطلب من أسرهم لعدم تمكنهم
من رعايتهم وتعليمهم لقلة ذات اليد. كما كان هؤلاء الأطفال حسب الكشف السابق
الإشارة إليه في أغلبهم مسلمين مع وجود عدد لا بأس به من الأقباط وطفل واحد يهودي
دخل الملجأ بطلب من والده.
وقصة الطفل الذي نذكرها هنا هي
لطفل دخل الملجأ في 8 مارس 1921 مع ثلاثة آخرين فكان الأربعة أول نزلاء الملجأ
وأول من قيد به هذا حسب قائمة نزلائه من 8 مارس 1921 وحتى 4 يناير 1923. الطفل
اسمه فؤاد ميخائيل عمره عشر سنوات من الأزبكية يتيم الأب ووالدته فقيره وهي من
طلبت دخوله للملجأ.
تذكر الوثائق أن فؤاد -أحد أول
نزلاء الملجأ-تقدمت والدته بطلب لإدارة الملجأ في أواخر ديسمبر 1922 بمناسبة أعياد
المسيحيين تطلب له إجازة من الملجأ لمدة ثلاثة أيام ابتداء من 24 ديسمبر، فوافقت
إدارة الملجأ، مع أخذ التعهدات اللازمة على والدته. وتؤكد الوثيقة حرفيا أن
"باقي المسيحيين الموجودين بالملجأ لم يحضر أحد من أهليهم لأخذهم".
لم ينته أمر فؤاد ميخائيل عند هذا
الحد في ملف الملجأ ففيما يبدو أن زيارة الطفل فؤاد ميخائيل لمنزله في ذلك الوقت
ربما قد نفرته من حياة الملجأ ذلك لأنه لم تمض مدة كبيرة حتى قام الطفل مع إثنين
من زملائه بالهروب من الملجأ في 6 فبراير 1923. فأثبتت إدارة الملجأ الواقعة
وأخطرت أقسام البوليس التابع لها كل طفل من الثلاثة لتبحث عنه، مع توعدها باتخاذ
ما يلزم من إجراءات عند حضورهم!!. ما هي تلك الإجراءات، وما طبيعتها؟؟ لا نعرف.
تعطينا الوثائق في الواقع بعض
تصورات لما يمكن أن قد دفع هذا الصغير وزميليه للهروب من ملجأ الحرية؛ فمن الممكن
أن يكون الطفل قد تعرض لمعاملة قاسية مثله من غيره من الأطفال، فعلى سبيل المثال
قام "رئيس ورشة الجزمجية" عباس أحمد بالتعدي بالضرب على الطفل حسين
شعراوي ذي السبع سنوات فأصابه بجرح في رأسه استدعى علاجه لمدة أسبوع، على الرغم من
كون الرجل يعمل بنظام اليومية تحت التجربة.
وربما كان الدافع لهروب فؤاد
ميخائيل وزميليه هو تعرضهم أو أحدهم لتحرش جنسي من زملائهم أو حتى هتك عرض، ذلك أن
بالوثائق أيضا ما يثبت تعرض بعض أطفال الملجأ لذلك الأمر خاصة من قبل زملائهم
الأكبر سنا. والحقيقة أن إدارة الملجأ كانت تعاقبهم عقابا مشهودا بعد توقيع الكشف
الطبي عليهم بحرمانهم من "الأدم" أي اللحم مع جلدهم علنا في وسط الطابور
تأديبا لهم وردعا للآخرين.
على كل، وأيا كان السبب في هروب
هؤلاء الثلاثة من الملجأ وبينهم أقدم نزلائه فإن الأمر يثبت عدة أمور أهمها إهمال
إدارة الملجأ ضبط أموره ومراقبة أطفاله وحتى العاملين به مراقبة مجدية بدليل كل ما
ذكر. على الرغم مما تحاول الوثائق الصادرة عن إدارته رسمه من صورة تبدو في ظاهرها
براقة ومثالية لكنها تبقى صورة صادرة عن أصحاب الشأن ومصدر السلطة "صورة
سلطوية" إن جاز التعبير. كما وأنه بالبحث بين التفاصيل وبين السطور يتضح
العكس تماما. تلك كانت لمحة من بعض ما كانت عليه ملاجئ تلك الفترة. ولا أقول إنها
صورة عامة ولكنها تعكس جانبا لطالما يجري إغفاله والسكوت عنه.