إعداد: د. وائل إبراهيم الدسوقي
الحلقة الأولى:
لقد عانى الجيش من الثقة الزائدة بالنفس من جانب قياداته، ولم
تستفد تلك القيادات من دروس معركة السويس في عام 1956، حيث كررت فيها إسرائيل خطة
ضرب المطارات المصرية التي قامت بها بريطانيا وفرنسا، تلك الخطة التي حصلت عليها
إسرائيل بواسطة عناصر جهاز الموساد في المخابرات البريطانية.
كان "عامر" يرفض دائما تنفيذ عمليات الحراك القيادي
داخل الجيش، وبقى من جراء ذلك هؤلاء القادة الذين تسببوا في خراب وحداتهم منذ
معركة السويس، بالرغم من إصرار الرئيس ناصر على تبديلهم أو إقالتهم.
وبين عامي 1956 و 1967 لم يتطور الجيش المصري، مما تسبب بالضرر
الفادح الذي حدث في 1967.
ورغم أن المعلومات التي كانت ترد إلى القيادة المصرية تؤكد أن
هناك ضربة مؤكدة للأراضي المصرية تجهز لها إسرائيل، إلا أن الرئيس ناصر وقيادته لم
يصدقوا. ورغم أن ناصر قد انتبه إلى خطورة الحكومة الائتلافية التي تشكلت في
إسرائيل، واعتبرها حكومة حرب، ورغم أن كافة البيانات والمعلومات التي ترد عن طريق
عملاء مصر تؤكد أن هناك معركة قادمة، ورغم أن الحكومة الإسرائيلية كلفت "موشيه
ديان" بتولي وزارة الدفاع، وعلى الرغم من عشرات بل مئات الدلائل الأخرى، ولكن
النتيجة كانت واحدة... الهزيمة.
لقد تشتت جهد الجيش المصري بين الاستعداد لمعركة محتملة وبين
الوجود العسكري المصري في اليمن. بالإضافة إلى التزام الرئيس "عبد الناصر"
بالتضامن مع سوريا من ناحية، والتزامه أمام العالم بألا تكون مصر هي البادئة
بالهجوم من ناحية أخرى، قد جعل الجيش في حالة دفاعية مما يفقده عنصر المبادأة
والمفاجأة.
وأصبح على مصر أن تمتص الضربة الأولى أيا كانت قوتها وعنفها،
وبالتأكيد وبقياس كافة الاحتمالات فهو وضع محكوم عليه بالفشل.
لقد كانت نقطة الضعف في الجيش المصري والتي سهلت العملية
العسكرية الإسرائيلية، هي عدم وجود حائط دفاع جوي للطيران المنخفض، فضلاً عن عدم تحصين
المطارات، وعدم الاستعداد ولو بشكل بسيط للمعركة المحتملة، حتى أن أخبار المعركة
المحتملة لم تبغ قائد القوات في سيناء.
التوتر على الجبهة السورية ونذير الحرب:
طوال الشهور الأول من عام 1967، كانت الجبهة
السورية مع إسرائيل مشتعلة بنيران متقطعة بين الجانبين, بسبب الاشتباكات المدفعية
بين الجانبين و تسلل وحدات من المهاجمين الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل، وتسلل
وحدات كوماندوز إسرائيلية إلى داخل سوريا من جانب آخر, وكان الاتجاه العام داخل
إسرائيل يميل للتصعيد العسكري مع سوريا إلا أن "ليفي أشكول" رئيس
الوزراء لم يكن في صف التصعيد، إلا أن الضغط العسكري وشكاوي المستوطنات الإسرائيلية
على الحدود دفعت باتجاه التصعيد بصورة أكبر.
في يوم 5 أبريل أعلن "ليفي أشكول" في
الكنيست: "أن إسرائيل قررت أن ترد بالطريقة التي تراها ملائمة على سوريا,
و أن الطريق إلى دمشق مفتوح", وفي 7 أبريل 1967 أسقطت إسرائيل 6 طائرات سورية من طراز ميج 21 (اثنتان
داخل سوريا وأربع آخرين منهم ثلاث طائرات داخل الأردن)، وعلى خلفية تصاعد التوتر
بين الجانبين, وتبادل لإطلاق النار والقصف، أمر الملك "حسين" بتسليم
الطيارين الثلاثة (وهم: النقيب "علي عنتر" والنقيب "محي الدين
داوود" والنقيب "أحمد القوتلي") اللذين هبطو بالبارشوت داخل الأردن
إلى سوريا.
وبعد أحداث سبعة أبريل كانت التوقعات تقريباً على
كل الأصعدة بأن الحرب لا محالة ستنشب بين سوريا و إسرائيل, فعلى الجانب السوري
زادت العمليات الفلسطينية ضد الإسرائيليين, وعلى الجانب الإسرائيلي هدد
"رابين" و"أشكول" الجانب السوري بأن الأسوأ لم يأت بعد,
فوكالة المخابرات الأمريكية أخبرت الرئيس "جونسون" باحتمالية وقوع
تحركات ضد سوريا, و توصل المصريون إلى نفس الاستنتاج, وكان أخطر التهديدات
الإسرائيلية لسوريا ما نشرته وكالة أخبار الدولية للنشر (UPI) , وكان الاعتقاد
السائد وقتها أن المصدر المجهول لهذه التصريحات هو "رابين", لكن ذلك
المصدر كان الجنرال "أهارون ياريف" رئيس الاستخبارات العسكرية, وأثارت
هذه التصريحات موجة عارمة من القلق على الصعيد العربي.
في 28 أبريل أبلغ وكيل وزارة الخارجية السوفيتية
"سيميونوف" مصر أن "ليفي أشكول" بعث برسالة إلى "ألكسي
كوسجين" رئيس الوزراء السوفيتي حول الأوضاع على الجبهة السورية الإسرائيلية
يُحمل فيها سوريا مسئولية الاستفزاز, و أن رئيس الوزراء الروسي قام بتقريع السفير
الإسرائيلي بسبب حشدها لقوات ضد سوريا, فاخبره السفير الإسرائيلي أنه مخول بنفي
تلك المعلومات, و أن "ليفي أشكول" طلب من السفير الروسي الذهاب بنفسه
لزيارة الجبهة الشمالية للتأكد, فرفض الأخير معللاً ذلك بقدرة الإتحاد السوفيتي
على معرفة الحقيقة بوسائله الخاصة.
وفي 13 مايو 1967 أبلغ "سيرجي" مندوب
المخابرات السوفيتي (كان مستشارا بالسفارة السوفيتية بالقاهرة) مدير المخابرات
العامة المصرية بأنه يوجد 11 لواءاً إسرائيلياً محتشداً على الجبهة السورية, وفي 14
مايو أصدر المشير "عبد الحكيم عامر" أوامره بوضع جميع وحدات الجيش
المصري على أهبة الاستعداد, بسبب الحشود الإسرائيلية الكثيفة على الحدود مع سوريا,
وعندما ناقشه رئيس العمليات اللواء "أنور القاضي" في عدم استعداد الجيش
للحرب, أخبره المشير بألا يقلق, فالقتال لم يكن جزءاً من الخطة الموضوعة، وإنما
استعراض كرد على التهديدات الإسرائيلية لسوريا.
وفي 15 مايو ذهب الفريق "محمد فوزي"
إلى سوريا, ولم يستطع الحصول على أي معلومة تؤيد المعلومات الروسية, حتى الصور
الجوية لم تظهر أي تغيير في مواقع القوات الإسرائيلية في يومي 12 و13 مايو. وبدأت
مصر بتكثيف قواتها في سيناء, ونظر إلى هذه التحركات من قبل الاستخبارات الأمريكية
و البريطانية على أنها "تحركات دفاعية تهدف لإظهار للتضامن مع السوريين في
وجه التهديدات الإسرائيلية", حتى أن الإسرائيليين لم يظهروا قلقاً كبيراً
تجاه هذه التحركات, حتى عندما حذر "رابين" أنهم لا يمكنهم ترك الجنوب
بدون تعزيزات، لم يثر الأمر قلقا كبيرا لتشابه تلك الخطوة مع تحركات سابقة تمت عام
1960 في ظل مشاكل حدثت على الجبهة السورية وقتها, وذهب القادة الإسرائيليين
للمشاركة في احتفال عسكري بالذكري التاسعة عشرة لقيام دولة إسرائيل. وفي 16 مايو
طالبت مصر القوات الدولية بالخروج من أراضيها في خطاب وجهه الفريق أول "محمد
فوزي" إلى قائد القوات الدولية الجنرال الهندي "ريخي"، وقام
بتسليمه العميد "عز الدين مختار" يطالبه فيه بسحب جميع جنوده, للحفاظ
على سلامتهم, وذلك بسبب حالة التأهب التي عليها الجيش، وتركيز القوات على الحدود
الشرقية استعدادا لأي هجوم من إسرائيل. في البداية تعامل الإسرائيليون بتفهم مع
التحركات المصرية, كان الإسرائيليون ما يزالوا في حالة تركيز على الوضع السوري.
وفي 22 مايو 1967 أعلنت مصر إغلاق مضيق تيران
أمام السفن إسرائيلية المتجهة إلى ميناء إيلات. واعتبرت إسرائيل هذه الخطوة إعلان
حرب نسبة إلى تصريح رئيس وزرائها بعد أزمة السويس وتكثيف القوات المصرية في سيناء.
توقعات بهجوم محتمل:
في يوم 28 مايو 1967 عقد الرئيس "جمال عبد الناصر"
مؤتمرا صحفياً، حضره عشرات الصحفيين من دول العالم المختلفة، واستهله ببيان واضح
بَيَّن فيه أن المشكلة التي يعيشها العالم ليست مشكلة مضايق تيران أو سحب قوات
الطوارئ الدولية، فهي عوارض طبيعية لمشكلة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، وما
يعنيه ذلك من تهديد قائم ضد الدولة الفلسطينية، وذكر الرئيس أن الاستعمار خلق
إسرائيل ودعمها وشجع عدوانها حتى ضد مبادئ الأمم المتحدة، واستعملها أداة للعدوان
في عدة مناسبات، وأضاف بحسم (الآن مستعد لاسترداد حقوق العرب).
وصرح ناصر بأن الضجة التي أثيرت حول سحب قوات الطوارئ
الدولية، وإغلاق خليج العقبة أمام إسرائيل، هي ضجة مصطنعة تثيرها الولايات المتحدة
الأمريكية تشجيعا ودعما للعدوان الإسرائيلي.. وأن هذه الأشياء كلها من آثار مؤامرة
السويس، وأعلن أمام الصحفيين (أننا صححناها وأعدناها إلى الوضع السليم، ونحن نستطيع ذلك
اليوم).
وفي يوم 29 مايو بدأت جلسات مجلس الأمن بعد تقرير "أوثانت"،
وقد طلبت مصر من المجلس ألا يقصر بحثه على مضيق تيران، وأن يبحث المشكلات الأخرى
حول فلسطين، وأن يبحث كذلك اعتداءات إسرائيل المتعددة.
وفي 30 مايو حضر الملك "حسين" ملك المملكة الأردنية
الهاشمية إلى القاهرة، ووقع مع الرئيس "جمال عبد الناصر" اتفاقية للدفاع
المشترك.
وفي 4 يونيو انضمت جمهورية العراق إلى اتفاقية الدفاع المشترك
بين الجمهورية العربية المتحدة والأردن.
ولقد هونت وسائل الإعلام على الشعوب العربية كل شيء، حتى أحس
الشارع العربي أن "جمال عبد الناصر" في يده كل شيء، فقد استهان بجنرالات
الولايات المتحدة الأمريكية وبقوة بريطانيا وسخر من كندا، فلا بد أنه واثق من خطته
وقوته، وأصبحت تل أبيب في مخيلة العرب هدف يسعى له الثائرون، ويلتقي فيه
المناضلون.
إنذار مبكر:
من خلال كتابات "هيكل" المختلفة، وما صرحت به
الوثائق مؤخراً، نجد أن الإشارات المبكرة كانت ترد للقيادة المصرية على نية
إسرائيل واستعدادها للهجوم العسكري. فقد تم التقاط العديد من الإشارات اللاسلكية
المشفرة التي تؤكد أن الهجوم الإسرائيلي قادم لا محالة، وأن أمريكا وإنجلترا
ضالعان في المؤامرة. ووصل لعبد الناصر تحذيرات من "تيتو" الرئيس اليوجوسلافي و "هوشيه
منه" الزعيم الفيتنامي بنفس المعنى.
وفي الساعة الخامسة وخمس دقائق يوم 4 يونيو، اتصل اللواء
"حسن طلعت" مدير المباحث العامة في القاهرة بمكتب المشير "عبد
الحكيم عامر" يبلغه رسالة نصها "أبلغنا مكتب مباحث المطار في القاهرة أن
قائد الطائرة العربية المسافرة لبراج اتصل بنا وأخبرنا أنه في الساعة 1600
(الرابعة بعد الظهر) تماما شاهد أربع قطع حربية أمريكية إحداها حاملة
طائرات"، وقد رصدها على مسافة 40 ميل شمال بلطيم، وهو ما يعني اقتراب حاملات
الطائرات الأمريكية من إسرائيل لتكون متأهبة لعمل مظلة جوية فوقها تحميها في حالة
هجومها الجوي. والتقط مركز الاستطلاع اللاسلكي في البحرية أربع إشارات:
الأولى: إشارة تدل على أن باخرة إسرائيلية
"دولفين" صدرت إليها الأوامر بأن تتقدم وتواصل سيرها في البحر وقد كانت
في ميناء أسمرة إلى إيلات عبر المضيق، وهو ما يعني علم بعض الجهات الإسرائيلية
بأنه عندما تصل تلك السفينة للمضايق، فلن يكون هناك ما يمنعها من المرور.
الثانية: إشارة تقول أن المدمرة الأمريكية
"فالكون" تقوم بدوريات منتظمة قرب السواحل السعودية حذاء منطقة
"جيزان" إلى مداخل ميناء "جدة" وكانت تتابع سير الملاحة العسكرية
المصرية.
الثالثة: أمر من قيادة الأسطول البريطاني في
مالطة إلى جميع وحدات أسطول صاحبة الجلالة البريطانية في البحر المتوسط بالانضمام
في السادسة صباحاً بتوقيت جرينتش – إلى قيادة الأسطول الأمريكي السادس في البحر
المتوسط .
الرابعة: وكانت قبل الهجوم مباشرة بعث "عبد
المنعم رياض" (قائد الجبهة الأردنية)، بإشارة
مشفرة لقيادة الجيش تفيد بإقلاع عدد كبير من الطائرات الإسرائيلية، التي ظهرت على
شاشة الرادار في منطقة عجلون، وكانت ترتفع 4000 قدم عن سطح البحر.
ويبدو أن حالة الفوضى دفعت بالبعض ليقوم بتغيير تردد ذبذبات
محطة استقبال الإشارة فلم يفلح الإنذار المبكر في شيء، كما أنه في نفس وقت الهجوم،
وفي صباح 5 يونيو، كان المشير
"عامر" والعديد من قيادات الجيش يقومون بجولة
استطلاعية فوق مواقع الجبهة في سيناء، بينما كانت طائرة أخرى تحمل نائب رئيس
الجمهورية فوق منطقة القناة، وبالتالي كانت التعليمات هي عدم إطلاق أي أسلحة مضادة
للطائرات حتى نزول الطائرات "الصديقة"، كما كان العديد من قادة المراكز
المتقدمة متجمعين في مطار "تمادة" لاستقبال المشير بعد عودته، بعيدين عن
مراكز قيادتهم، وقد قامت الطائرات الإسرائيلية بمهاجمة المطار أثناء وجودهم فيه.
الهجوم الإسرائيلي (براعة الخطة ودقة في التنفيذ):
كان التفوق العسكري للعرب ساحقا بالنسبة لإسرائيل حتى عام
1965، إلا أن إسرائيل استطاعت عقد اتفاقيات لتسليح جيشها بأحدث مما لدى العرب من
عتاد حربي، وفي خلال عامي 1965 و1966 استطاعت إسرائيل أن تضاعف قوتها العسكرية،
متفوقة على السلاح العربي تفوقا ساحقا، وباستعانتها بخبراء الحروب في العالم ممن
شاركوا في العمليات العسكرية في الحرب العالمية الثانية، تفوقت أيضا في مستوى
تدريب الجندي الإسرائيلي.
وفي تمام الساعة الثامنة من صباح 5 يونيو 1967 قامت أولى موجات سلاح الجو
الإسرائيلي، وكان قوامها 174 طائرة بمجموعة من الطلعات المتزامنة على كل قواعد
العمق المصري في وادي النيل ابتداء من قاعدة "أبو صوير" على الضفة
الغربية لقناة السويس، وحتى مطار الأقصر في جنوب الوادي.
وجاءت الموجة الثانية من 161 طائرة وركزت بالدرجة الأولى على
المطارات المتقدمة في سيناء، ثم جاءت موجة ثالثة من 157 طائرة تكتسح ما بقى من
حطام على المطارات والقواعد المصرية، وخلال فترة ثلاث ساعات ونصف، وهي المدة التي
استغرقتها الضربة الجوية الإسرائيلية، تم حسم معركة عام 67.
لقد كانت خطة الهجوم
على مصر بارعة، وكانت هي نفسها الخطة التي كانت بريطانيا ترغب في تنفيذها في حالة
استمرار الحرب في 1956 على المنوال الذي رسمته، وكانت تلك الخطة تقوم على: (ضرب 11 قاعدة جوية مصرية في نفس الوقت
وهي: "العريش - بير جفجافة - بير تمادا - جبل لبنى - أبو صوير - كبريت -
إنشاص - القاهرة - غرب القاهرة - بني سويف – الأقصر".
ويكون الضرب بموجتين: الأولى: تركز على قواعد وادي النيل البعيدة. والثانية: تركز على قواعد سيناء القريبة.
وكان الهدف الأهم هو قاعدتي "بني سويف"
و"الأقصر" ففيهما تتمركز الطائرات المصرية القاذفة، ثم بعد الضربة
الجوية يكرس الطيران الإسرائيلي جهده لمساندة القوات المدرعة الزاحفة على سيناء،
وقد قام بقرابة ألف طلعة لمساندة القـوات المدرعة.