جديد المقتطف

الثلاثاء، 1 سبتمبر 2015

الفرق بين رجل الدين ورجل الدولة


بقلم: د. محمد محمود خلف
لم يكد ينتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) حتى ظهر لنا عالما من أشهر علماء الأحناف في زمانه، اشتغل بالعلم والتأليف والسياسة، إنه [الحاكم الشهيد] محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله المروزي، المكني [بأبي الفضل السلمي].

الفرق بين رجل الدين ورجل الدولة
الحاكم المروزي نموذجا
ولد المروزي بمدينة مرو. ولم تذكر لنا المصادر عام ولادته، ولا بد أن يكون ولد قبل سنة [241هـ/ 855م]، وذلك لأنه روى عن الإمام أحمد بن حنبل [164ـ 241هـ/ 780ـ 855م] وكان من أشهر تلامذته. 
رحلته العلمية:
رحل الحاكم في طلب العلم إلى جميع أرجاء العالم الإسلامي حينذاك، فسمع وتعلم، وأخذ عن أبرز علماء عصره، ومنهم: أبو رجاء محمد بن حمدويه الهورقاني، ويحيى بن شاسويه الذهلي، ومحمد بن عصام بن سهيل، في مسقط رأسه بمرو. ثم رحل إلى نيسابور، وأخذ عن عالمها عبد الله بن شيرويه، ودخل الري وتعلم على يد إبراهيم بن يوسف الهسنجاني، وكان من الطبيعي أن يرحل الي عاصمة الدنيا مدينة بغداد، فسمع بها الهيثم بن خلف الدوري، والإمام أحمد بن حنبل، وأحمد بن الحسن الصوفي، وغيرهم. ودخل الكوفة وسمع بها على بن العباس البجلي. ثم رحل المروزي الي مصر، فسمع بها على بن أحمد بن سليمان المصري، وغيره. ولم تطل إقامته بمصر، فخرج إلى الحج،وسمع بمكة المفضل بن محمد الجندي، وغيره.  
وبعد أداء مناسك الحج، كان من الطبيعي أن يرحل المروزي إلى بلاد ما وراء النهر.  فدخل بخارى وسمع بها محمد بن سعيد النوجازي، وحماد بن أحمد بن حماد، والحسن بن سفيان النسوي، وعبد الله بن محمد السعدي وغيرهم. وبذلك يكون المروزي قد حصل علوم عصره وسمع من مراكز الثقافة الإسلامية المختلفة.
برع المروزي في الفقه الحنفي، حتى صار إمام الأحناف في عصره بلا منازع. قال الذهبي: "كان يحفظ الفقيهات، ويتكلم على الحديث، ويصوم الأثنين والخميس، ويقوم الليل ومناقبة جمة". هذا، وقد أطنب الحاكم النيسابوري في مدح المروزي، والثناء عليه. فقال: " كتب الحديث على رسمنا [المحدثين]، لا على رسم المتفقهة. وكان يحفظ الفقيهات [ الجزيئات ] التي يحتاج إليها، ويتكلم على الحديث ".
المروزي في بلاد ما وراء النهر[آسيا الوسطى حاليًا]:
دخل المروزي بلاد ما وراء النهر في ظل حكم الدولة السامانية. الذين تمتع رجال الدين عندهم بمكانة خاصة  فكان مؤسس الدولة إسماعيل بن أحمد الساماني [279 ـ 295هـ/ 892 ـ 907م] يوقر العلماء، ويستعين برجال الدين. ومن الجدير بالذكر، أن العلماء كانوا لا يكلفون بتقبيل الأرض بين يدي الأمير. هذا، وقد تمتع فقهاء الأحناف بمكانة خاصة عند الملوك، حيث كان يتم اختيار القضاة من بينهم، وعادة ما يكون أكثرهم علماً وأرفعهم مكانة. لذا فكانت الأمور تصدر عن رأيه، وتقضي حوائجه، ويعين العمال وفقاً لمشورته. وقراءة متأنية في ألفاظ السمعاني، أستطيع القول، إن الشخص الذي يعادل المفتي في زماننا، أو ما عرف (فيما بعد ) باسم " شيخ الإسلام "، كان يحمل اللقب الفارسي أستاذ [المعلم]. وأن هذا المنصب قد وجد منذ عهد الأمير إسماعيل.
على كل حال، دخل المروزي بخارى، واشتهر بتدريس الفقه الحنفي، فأقبل طلاب العلم عليه، ينهلون من علمه وفقهه. قال السمعاني: " سمع مشايخ خراسان قاطبته، وأئمتها من الحاكم الشهيد ". وإن كان في هذا مبالغة من السمعاني، إلا إنني أتفق معه في علو مكانة الإمام المروزي في الفقه الحنفي. ونظراً لهذه المكانة الرفيعة، فقد ولى المروزي قضاء بخارى. وكان من أشهر تلامذته خلال هذه الفترة الأمير الحميد أبي محمد نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل  الساماني [331 ـ 343هـ/ 943 ـ 954م] الذي أخذ الفقه عن المروزي. 
ومن الجدير بالذكر، أن المروزي كان يعامل الأمير، كمعاملته سائر الطلاب، فلم يكن يميزه عن غيره، بل كان ينزله منازل الناس. حتى إنه عندما دخل يوماً عليه في مجلس علمه، وأراد أن يسمع منه قال له الشيخ: "انصرف أيها الأمير، فليس هذا يومك". ولعل هذه التربية قد أثرت في الأمير نوح بن نصر، حتى قيل عنه: "كان من أدباء ملوك آل سامان" وعندما ولي الأمارة في أول شعبان سنة [331هـ/ 943م] ولي المروزي الوزارة "وقلده أزمة الأمور كلها" على حد تعبير الذهبي.
هكذا أصبح المروزي وزيراً للأمير نوح بن نصر، ولكن السؤال الآن: ما هي أحوال الدولة السامانية حينئذ؟ هل كانت قوية قادرة على مواجهة الأعداء والثوار؟ أم كانت ضعيفة؟
في الحقيقة إن الدولة السامانية خلال هذه الفترة كانت تمر بظروف سياسية خطيرة. حتى قال عنها بارتولد خلال ولاية نوح بن نصر: "فإننا نبصر بوضوح العلامات التي تشير الي تدهور الدولة"  فلم يكن في مقدور الإمام المروزي أن يوقف هذا التدهور، خاصة إذا علمنا أن هذه الفترة تعددت فيها الثورات ضد الولاة؛ بسبب نقص وتأخر رواتب الجند.هذا في الوقت الذي كان فيه المروزي يشتغل بتصنيف العلوم. قال الذهبي: "وكان لا ينهض بأعباء الوزارة، بل نهمته في العلم، وفي الطلبة الفقراء" ولدينا كثير من النصوص تثبت أن الإمام المروزي كان يهتم بالجانب العلمي على حساب الجانب السياسي للدولة.
ذكر أبو عبد الله بن الحاكم الشهيد، قال: "عهدت المروزي وهو يصوم يوم الأثنين والخميس، ولا يدع صلاة الليل في السفر والحضر، ولا يدع التصنيف في السفر والحضر، وكان يقعد والسفط [الصندوق] والكتب والمحبرة بين يديه ـ وهو زير السلطان ـ فيؤذن لمن لا يجد له بداً من الإذن، ثم يشتغل بالتصنيف فيقوم الداخل ولقد شكاه أبو العباس بن حمويه قال: ندخل عليه ولا يكلمنا، ويأخذ القلم بيده ويدعنا ناحية!".
وقال الحاكم النيسابوري في [كتابه المفقود] "تاريخ نيسابور": "وسمعت أبا العباس المصري [تلميذ المروزي] وكان من الملازمين لبابه. يقول: دعا المروزي يوماً بالبواب، والمرتب وصاحب السر فقال لثلاثتهم: إن الشيخ الجليل يقول: قد تقدمت إليكم غير مرة بأن لا تحجبوا عني بالغدوات والعشيات أحداً من أهل العلم الرحالة [أصحاب] المرقعات والأثواب الرثة، واحجبوا الفرسان، وأصحاب الأموال، وأنتم - لأطماعكم الكاذبة - تأذنون للأغنياء، وتحجبون عني الغرباء لرثائتهم. فلئن عدتم لذلك نكلت بكم".
أقول، هذا محمود في مجال التعليم، إلا إنه فاسد مفسد في مجال السياسة. ضار بأحوال العباد والبلاد. وإنني اتفق تماماً مع ما ذكره ابن خلدون في مقدمته، تحت عنوان: "فصل في أن العلماء من بين البشر أبعد  الناس عن السياسة ومذاهبها" ولا بأس أن أقتبس بعض النصوص من كلامه. كي نقف على صحة ما ذهبت إليه.
قال: "والسبب في ذلك أنهم [العلماء] معتادون النظر الفكري والغوص عن المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن. أموراً كلية عامة ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس ويطبقون من بعد ذلك الكلى على الخارجيات. وأيضاً يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي، فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر. ولا تصير بالجملة إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر. ولا تصير بالجملة الي المطابقة. وإنما يفرغ ما في الخارج عما في الذهن عن ذلك... والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنها خفية... فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام، وقياس الأمور بعضها على بعض، إذا نظروا في السياسة أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم، فيقعون في الغلط كثيراً ولا يؤمن عليهم".
وأظنك تتفق معي في صحة أن كثيراً من العلماء لا يصلحون للسياسة. وهذا عين ما وقع فيه الإمام المروزي: "فيقعون في الغلط كثيراً، ولا يؤمن عليهم" فلم يكن في استطاعة وزير هذا شأنه أن يخرج الحكومة من المأزق الذي وقعت فيه بسبب انتهاب الخزينة، وهذا في الوقت الذي كانت فيه الدولة في أمس الحاجة إلى الجند لإخماد الثورات التي شبت في إقليم خوارزم [334هـ/ 944م] وللحرب ضد الأتراك، ثم لقتال الثائر أبي علي بن محمد بن محتاج.
وقد نتج عن هذه المشاكل، زيادة في الخراج والضرائب، لدرجة أن الحكومة اضطرت إلى استقراض الخراج من الناس لمدة سنة كاملة، ولم تستطيع دفعه. كما لم تستطع دفع مرتبات الجنود. وضحى الأمير نوح بن نصر بالقائد العام لجيشه أحمد بن حمدويه في الثورة التي قامت ضد الحكومة، وذلك من أجل الوزير المروزي، ولكن عما قليل، لم يستطيع الأمير أن يحول بين العسكر وبين الفتك بالوزير بسبب تأخير أرزاقهم.
قتل المروزي:
تختلف الرواية العربية عن الفارسية، حول تفاصيل مقتل الوزير المروزي. فتذكر الرواية العربية، إن الحاكم المروزي عندما سمع ثورة الجنود حول قصره، أغتسل، ولبس الكفن، ولم يزل طوال الليل يصلي عندما أسفر الصبح أرسل الأمير نوح بن نصر إلى الجنود يمنعهم عن قصر المروزي، ولكن الجنود كانوا قد اقتحموا القصر بالفعل وقتلوا المروزي وهو ساجد بين يدي الله تعالى.
ومن تحليل هذه الرواية نجد أن الأمير نوح بن نصر كان في جانب الحاكم المروزي، مدافعاً عنه، محاولاً منع الجند من اقتحام قصره، ولكن ذلك لم يجد نفعاً.
على حين تؤكد الرواية الفارسية على أن قتل الوزير المروزي كان بموافقة الأمير نوح نفسه. ولكن هذه الرواية عادت واختلفت حول تفاصيل هذا القتل.
فيذكر خواند مير: إن الأمير نوح سلم الحاكم المروزي مضطراً إلى الأمراء، فقاموا بقتله. على حين يذكر الكرديزي: إن الأمير نوح أمر الجنود أن يجروا المروزي على وجهه من مكانه، وأن يسحبوه حتى باب القصر؛ وهناك أمر بقتله  أمام الجنود، حتى يهدأ الثوار.
أما الروايات الأجنبية ـ  وعلى رأسها ـ  بروكلمان، فقد انفرد برواية لم أعثر عليها في المصادر العربية أو الفارسية. خلاصتها: إن الجنود ربطوا الحاكم المروزي - بعد القبض عليه - في ذروتي شجرتين أخذتا تتجاذبانه حتى مات.
أما عن ترجيح بعض هذه الروايات. فنجد المؤرخ الكبير ابن الأثير الجزري، يرجح الرواية الفارسية، بقوله: "وأهل كل بلد أعلم بأحوالهم" والمؤرخ الروسي بارتولد، بعد أن ذكر الروايتين  لم يعقب عليهما. على غير عادته.
وأجدني أميل إلى الأخذ بالرواية العربية، وأرجح أن يكون الأمير نوح بن نصر قد أرسل - بالفعل - جنوده للدفاع عن الإمام المروزي فما كان لمثل الأمير نوح - الذي تربى في البيت الساماني - ذلكم البيت الذي يقدر أهل العلم، ويحفظ لهم مكانتهم، وقدرهم بين الناس - أن يتخلى عن الإمام المروزي، بل قل عن شيخه، بهذه السهولة، وأن يسلمه إلى غوغاء الجند. يقول المستشرق براون: "كان البلاط الساماني ما زال مركز النشاط لتجديد حياة إيران الأدبية، وكانوا يجاهدون في ذلك السبيل بحماس بالغ... إن السامانيين كانت لهم أياديهم البيضاء في حماية الأدب العربي".
أما الرواية الفارسية، فأنني أرى إنها متحاملة تحاملاً شديداً على الأمير نوح، بل قل على البيت الفارسي كله، لأنهم حاولوا التخلص من العادات والتقاليد الفارسية. اقرأ ما قاله المؤرخ الفارسي "خواندمير" تعقيباً على هذه الأحداث، قال: "فيجب على شاغل منصب الوزارة أن يخصص جزءاً من أموال الديوان للمسئولين الكبار، وأن لا يسلك سبيل العناد مع المربين للسلطان، ويفتح أمامهم أبواب المنافع والفوائد، ويبذل ما في وسعه من أجل إرضائهم".
وما أظن إن الإمام المروزي  -  الفقيه الأصولي الحنفي-  أن يسمح بفعل ذلك. لأنه ليس من العدل، ولا من أخلاق الإسلام، أن تفضل حاشية السلطان على باقي الرعية. بل الحق كل الحق مع الإمام المروزي، الذي كان يرعى شئون الناس، ولم يفضل أحداً على أحد ولو كانوا جنود السلطان، بل أنه أرسى التقاليد الحسنة في بلاد ما وراء النهر، وسماه الناس: "الحاكم الجليل".
وهذا لا يعني أنني أعفي الحاكم المروزي من المسئولية تماماً، ولكن لا أحمله تبعات كل ما وقع. وذلك لأن الدولة السامانية كانت آخذة في الانهيار، ولم يكن في مقدور أحد - ولو كان الفقيه الحنفي المروزي - أن يوقف هذا الانحدار، ونذكر بقول [المستشرق الروسي] بارتولد، حول ولاية نوح بن نصر: "فإننا نبصر بوضوح العلامات التي تشير إلى تدهور الدولة".
     بقى أن أقول، إن الإمام المروزي، سقط شهيداً، وهو ساجداً بين يدي الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة [334هـ/ 945م] وحمل جثمانه الطاهر إلى مسقط رأسه مرو، ليدفن هناك فرحمة الله على هذا الجسد.
مصنفات المروزي:
إن كان الإمام المروزي قد أخفق سياسياً، فقد تفوق علمياً، فقد ترك لنا ثروة علمية ضخمة، انتفع بها طلاب العلم، خاصة فقهاء الأحناف، ومن أبرز مؤلفاته:
1- كتاب: "الكافي في الفقه" فقد اعتمد فيه على كتاب "الكافي" للإمام محمد بن الحسن الشيباني. وقيل: إن رجلاً رأى ليلة في المنام ناراً نزلت من السماء على قبر الحاكم المروزي، فجاء كتاب "الكافي" وصار برزخاً بين القبر والنار حتى رجعت.
    ومن الجدير بالذكر، أن كتاب " الكافي " قد ساهم بشكل فعال في تقدم الحركة الفقهية عند الأحناف. فقام بشرحه الكثير منهم، وعلى رأسهم: محمد بن أحمد بن سهل السرخسي المتوفي [483هـ/ 1090م] كما شرحه أحمد بن منصور الأسبيجابي المتوفي [480هـ/ 1087م]. كما وجد له مختصر بعنوان: "الشافي في اختصار الكافي" لأبي البقاء محمد بن أحمد بن ضياء الدين القرشي المتوفي [854هـ/ 1450م].
2- كتاب: "المنتقى في الفروع"
3- كتاب: "الغرر في الفقه"
4- كتاب: "شرح الجامع"
5- كتاب: "أصول الفقه"

وللأسف لم تصلنا معظم هذه المؤلفات، ولعلها فقدت مع ما فقدنا من تراثنا الإسلامي. ولم يوجد منها سوى نتف في بطون كتب فقه الأحناف، تحتاج إلى من يجمعها ويعيد ترتيبها على أبواب الفقه. بحيث نستطيع أن نقف على آراء الإمام المروزي الفقيه، وعلى مدى اجتهاده في المذهب الحنفي.