بقلم: سعاد محمد التهامي
باحثة دكتوراه - جامعة الإسكندرية
بين الفن والتاريخ علاقة أزلية، فلايوجد فن بلا قصة والقصة وقائع وكل واقعة
يلتقطها التاريخ ليحفظها بين دفتيه بكامل تفاصيلها ليبقى التاريخ مادة الفن
المفضلة، فإن كان التاريخ ركامًا من أحداث وأسماء وانتصارات وانكسارات للأمم وشعوب
في زمن قد ول ومضى، فصرخات الفن تهب التاريخ حياة فتتجول بين جغرافيات الألم
البشري ومعاناته وتبحرفي انتصارات وأمال الشعوب وأحلامهم، فطالما استقى الفن من
التاريخ طهرالذكرى وروعة الفكرة وجسدها كما يروي التاريخ صار الفن والتاريخ روحًا
واحدة يهب التاريخ للفن المادة، ويهب الفن للتاريخ الحياة.
نموذج من الفن ليكن الأدب الذي يعد مرآة لحياة الشعوب، فكل ما يجرى في
المجتمع له تأثره على الأديب فيصوغه شعرًا، وإذا أردنا أن نأخذ نموذجًا لكيفية
استفادة المؤرخ من الأديب، لعثرنا على ذلك في بيت شعر صاغه عبد الرحيم محمود في
عام 1936م ترحيبًا بالأمير سعود بن عبد العزيز عند زيارته للمسجد الأقصى:
"المسجد
الأقصى أجئت تزوره ... أم جئت من قبل الضياع تودعه"
هذا البيت يوضح أن قرب حدوث الكارثة قد بات وشيك الحدوث، وهو ما كان
متوقعًا ومرئيًا لدى بعض المثقفين الفلسطينيين قبل وقوعه باثنى عشر عامًا، وهو ما
كان الفكر السياسي عاجزًا عن فهمه أو توقعه في الوقت الذي توقعة شاعر عربي.
أيضًا حمل الشعر الغنائي في كثيرمن الأحيان رسائل سياسية تروج لطبيعة
العصر، فعلى سبيل المثال لا الحصر ثورة يوليو1952م حملت معها شعارات تنادي
بالعروبة والوحدة، فجاءت الأغنية تعبرعن روح الثورة وشعاراتها ليكن المثال من
أوبرت "صوت الجماهير" كلمات حسين السيد وألحان محمد عبد الوهاب، بصوت
عذب يشدو عبد الوهاب كاسرًا كل حواجز الصمت وبروح الثورة يشدو رسالتها:
"أخي المواطن في كل وادي من شعب عربي كافح وعيش، نار الخديعة بتطفي
روحها ونارك انت ما بتنطفيش، مهما آتأمروا عليك حقك خدوا يإيدك،طلب الحق مافهش
مساومة وصاحب الحق سلاحه كبير،خط السير معلوم وطريقنا مرسوم هو الوحدة والاشتراكية
والاتنين هدف الجماهير".
الأغنية المصرية والقضية الفلسطينية:
تعتبر الأغنية الوطنية أحد أبرز أشكال التعبير عن نبض الجماهير في فترات
الاحتلال؛ فدارت الأغنية حول استنهاض الهمم والمقاومة، في هذا الصدد نقول بأن
الأمة العربية قد مرت بأحداث زاخرة تناولتها الأغنية وترجمتها في شكل كلمات وألحان
داعبت الواقع بآلامة وأحلامه؛ فقد تطرقت الأغنية لفلسطين وجعلتها قبلتها؛ فبعد العدوان الثلاثي على مصر فنجد على سبيل مثال
أغنية "قولو لمصر تغني معايا" والتي كان من أشهر مقاطعها: "قولوا لعرابي
أخدنا بتارك من اللي خانوك، وخرج الغاصب اللي شرانا من اللي باعوك، واللي باقي لنا
نخلص تارنا لفلسطين".
في
أغنية ألهبت الحماسة واستدعت روح الوحدة تغنت فايدة كامل برائعة "البركان
العربي الهادي جالو وقت وثار"أما المقطع الذي اتصل بفلسطين"جيش جبار،
صوتو بيدوي يا فلسطين، دقت ساعة التار"، وأشعلت فايدة كامل الجماهير بصوتها
في نشيد "لآخر نقطة بدمي" كلمات يوسف شوقي، وتذكر فيها فلسطين بمقطع
"أنا عملاق قواة كل ثائر في فلسطين وفي أرض الجزائر"، كما غنى محمد
قنديل بعد عدوان 1956م نشيد كامل لغزة ويقول: "غزة غزة إحنا فداها، أرض العزة
ما أغلاها، كلمتنا يا استعمار لاتدويل ولا إسرائيل، غزة للعرب الأمجاد، لا لطريد
ولالشريد، أرض جدودنا والأحفاد نحميها وعنها ما نحيد".
في
عام 1963م لحن عبد الوهاب أوبرت "صوت الجماهير" والذي لم يخلو من مداعبة
فلسطين وروح العروبة بمقطع غنته فايدة كامل: "بسم اتحادنا قوم يا كفاحنا قول
للصهاينة المعتدين راية العروبة عرفت نجومها من عام ثمانية وأربعين، خط النار
موصول، والجماهير بتقول دقت ساعة العمل الثوريفي فلسطين باسم الجماهير".
وفي عام 1965م غنى محمد عبد
الوهاب "وعرفنا الحب" وفيها عن فلسطين: "لاجل عيونك يا فلسطين، راجعين
راجعين، جيش تحريرك إيدو في إيدنا، بكرة حيعلن عيده وعيدنا".
عندما
امتلأت سماء الوطن العربي بالغيوم، حلت أمطار الهزيمة على أرجاء الوطن العربي في
عام 1967م، فكما سقطت الأراضي العربية سقطت معها الكرامة العربية، فحاول عبد
الناصر ترميم الكرامة العربية على الساحة السياسية، وحاولت الأغنية العربية أن
تداوي الجرح.
فكانت
الأغنية التي تغنت بها سعاد محمد، كلمات محمود حسن إسماعيل، والتي تقول فيها
"يا قدس يا حبيبة السماء قومي للصلاة"، ثم جاء صوت عبد الحليم يكسر حاجز
الصمت وكسر الكرامة بأغنية لفلسطين حملت اسم "المسيح" والأغنية من كلمات
عبد الرحمن الأبنودي، ويقول فيها:
"في القدس في طريق الآلام، تفضل تضيع فيك الحقوق لأمتي ياطريق الآلام، وينطفي
النور في الضمير وتنطفي نجوم السلام".
شهد
عام 1969م لحن لعبد الوهاب وكلمات نزار قباني "أصبح عندي الآن بندقية"
التي غنتها أم كلثوم وغناها عبد الوهاب؛ وفي رائعتين أولهما "لفؤاد
حداد" كانت أغنية "ولا في قلبي ولا عيني إلا فلسطين"، وثانيهما الأغنية
الأكثر شهرة كانت "الأرض بتتكلم عربي" والتي تقول في مقطعها الأخير: "الأرض بتتكلم عربي ومن حطين، ردي على قدس فلسطين، أصلك مية وأصلك
طين".
من الأغاني المحفورة في الوجدان العربي أغنية "دعاء الكروان" كلمات أحمد فؤاد نجم، وغناء الشيخ إمام، وأبرز مقاطعها: "يهوذا خان أكم يهوذا وباع مسيح، لا يهوذا دام ولا جرح بلاد جريح، وانت الجريح تيجي الأطبّة وتسألك ما أعجبك ما أنبلك يا شعب يا نبض الوجود .الخلد لك والملك لك الحكم لك".
تبعت
هزيمة 1967 سلسلة هزائم، حتى باتت فلسطين شبة غائبة، إلى أن جاءت الانتفاضة
الثانية لتعيد القضية من جديد على الساحة السياسية وأيضًا الغنائية، فبرزت عدد من
الأغاني من بينها، القدس هترجعلنا،
كذلك شهدت الأغنية المصرية تفاعل مع أحداث الانتفاضة، ويوم اتخذت الأجساد أداة للانتقام من العدو الصهيوني،
كانت من بين العمليات الاستشهادية عملية فريدة من نوعها لفتاة تزينت بحزام ناسف
وحددت عرسها بـ 27 يناير 2002، اسمها وفاء إدريس وهي للقضية رمز للوفاء، فانطلقت
من مصر أغنية تحمل اسمها "أختي وفاء" غناء آمال ماهر: "أختي وفاء أنا مثلك عربية والغدر
شتت شملنا، لكنكي اخترتي الشهادة بالموت أحييتي الإرادة، ونقول تحيا الانتفاضة هي
روح شعب رائع يهدي الفداء".
كان هذا غيض من فيض فيما يتعلق بالأغنية المصرية، التي داعبت فلسطين في شتى
مراحلها التاريخية، فغنت لفلسطين المنكوبة، وفلسطين المقاومة، وفلسطين التي ضاعت
من فلسطين ولم يبق منها سوى شتات أرض، وبما لايدعو مجال للشك فأن القائمة تطول
فيما يخص فلسطين، فالمكتبة الإذاعية المصرية لاتزال في جعبتها الكثير.