إعداد الباحثة/ نبوية أحمد عبد الحافظ حمد
في تاريخ الأمم وحياة الشعوب شخصيات
استثنائية قد لا يشعر الناس كثيرًا بوجودها، وهذا النمط الرائع من البشر غالبًا ما
يعمل في صمت ويتحمل مسؤولياته في كفاءة بعيدًا عن الذاتية، ليقدم النموذج الرفيع الذي
يجب أن يحتذى به، ويعد حافظ إسماعيل من هذه الشخصيات الاستثنائية النادرة، فهو شخصية سياسية مصرية بارزة ساهمت في صنع
القرار السياسي في فترات زمنية تمتد إلى ربع قرن أو أكثر شهدت أحداثًا غاية في
الخطورة تتعلق بأمن واستقرار مصر، وهذا الرجل لم ينل إلى الآن ما هو جدير به من
التقدير وطنيًا وقوميًا وإعلاميا.
ولد محمد حافظ إسماعيل في أول نوفمبر عام
1919 بالقاهرة. وتخرج في المدرسة الحربية في القاهرة عام 1937 وتخرج في الأكاديمية
العسكرية ببريطانيا عام 1939، وفي نفس العام تولى قيادة وحدة مدفعية ضمن تنظيم
القوة المصرية المكلفة بتأمين الدفاع بمرسى مطروح أثناء الحرب العالمية الثانية، وعمل
مدرسًا بكلية أركان الحرب ومساعد للملحق العسكري بواشنطن قبيل ثورة 1952، ثم عمل مديرًا
لمكتب المشير عبد الحكيم عامر 1953 - 1960. وهو يعتبر الخبير الأول في مفاوضات
صفقة الأسلحة التشيكية في عام 1955، والتي كانت بمثابة نقلة نوعية في تسليح الجيش المصري
الحديث.
كما عمل سفيرًا لمصر في كلٍ من لندن وروما
وباريس وموسكو، وتولى وكالة الخارجية ثم عُين وزير دولة برئاسة مجلس الوزراء ثم
وزير دولة للشئون الخارجية المصرية في مطلع الستينيات، وقد كان هو بحق العقل
المنظم الذي أعطى الخارجية المصرية شخصيتها المطلوبة، وفي عام 1970 عُين حافظ
إسماعيل رئيسًا للمخابرات العامة المصرية، ثم أراده محمود فوزي - رئيس الوزراء في ذلك
الوقت- بجانبه وزير دولة، فترك المخابرات بعد حوالي ستة أشهر من توليه المنصب، ثم
اختاره الرئيس السادات لمنصب مستشار الرئيس للأمن القومي فيما بين
عامي 1971 - 1974، ذلك المنصب الذي استحدثه السادات تشبها بالإدارة الأمريكية حيث
هناك كيسنجر ولدينا حافظ إسماعيل، وليس غريبًا عليه تول هذا المنصب ربما الدقة
والصرامة كانت من ضمن وسائله للوصول إليه، وقد حُرِّم هذا المنصب من بعده لمدة 41
عامًا حتى عاد إلى المسامع مرة أخرى بقرار من الرئيس السيسي لتعيين المستشارة
فايزة أبو النجا.
وتمثل مذكرات حافظ إسماعيل – أمن مصر القومي في عصر التحديات - مساهمة
جادة ورؤية متزنة وموضوعية للمعارك السياسية والعسكرية التي خاضتها السياسة
المصرية في عهدي عبد الناصر والسادات على صعيد المواجهة مع الأخطار الخارجية،
فالكتاب يتابع هذه المواقف عبر حرب 1948 وحرب 1956 ثم حرب اليمن في الستينات وحرب
1967 وحرب أكتوبر 1973 من حيث دوافع هذه الحروب وكيفية مواجهتها على الصعيد
المصري، إيجابياتها وسلبياتها والظروف السياسية التي أحاطت بها وذلك في إطار
اتصالها بالأمن القومي المصري.
ويهمنا في هذا المقام إلقاء الضوء على مرحلة
مهمة في تاريخ مصر وفي تاريخ هذا الرجل، وهي مرحلة شغله منصب مستشار الرئيس للأمن
القومي، فلم تكن قضية الحرب والسلام قد حسمت حتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وعندما
تولى السادات الرئاسة كانت مصر عند مفترق الطرق، وتميزت هذه المرحلة بالمناورة
السياسية والإعداد العسكري للمعركة، وعلى الصعيد الدولي كانت الدولتان العظمتان خلال
عامي 1972-1973 منهمكتين في سياسة الوفاق، ولم يكن الشرق الأوسط يحتل لديهما أولوية
كبرى. فقد اتفق السوفيت والأمريكيون على تقييد إرسال شحنات الأسلحة وفرض حالة من
الاسترخاء العسكري في الشرق الأوسط، وذلك في اجتماع القمة في موسكو مايو 1972. ولم
يكن هذا القرار مقبولًا لدى السادات لأنه سيديم حالة اللاحرب واللاسلم بكل ما فيها
من اتجاهات سلبية، وفاجأ السادات العالم بقراره بالاستغناء
عن الخبراء الروس في مصر، ورغم ذلك استمرت الاتصالات المصرية السوفيتية من خلال
الزيارات التي قام بها لموسكو المشير أحمد إسماعيل ومستشار الأمن القومي حافظ إسماعيل
لضمان استمرار الدعم العسكري.
وخلال فترة عمل إسماعيل كمستشار للأمن القومي أدار جانبًا مهمًا من
الاتصالات السرية مع الجانب الأمريكي. ومع بداية عام 1973 قام
بإبلاغ القائم بالأعمال الأمريكي بالقاهرة بالمبادئ التي ستحكم المواقف المصرية، وقد
كان حاسمًا وصارمًا فأكد له أن مصر لن توافق إلا على ما هو في مصلحة الأمة العربية
وأنها لن تقدم على أي صلح منفرد، وهنا رأت الإدارة الأمريكية ضرورة التعرف على ما
يدور بذهن هذا الرجل حيث توقعوا أنه سيكون هو المفاوض الذي سيتعامل مع ممثلين
أمريكيين يجهل كل منهما الآخر. وتلقى السادات رسالة من كيسنجر وطلب منه أن يختار
من يمثله لإجراء مباحثات مباشرة مع الولايات المتحدة، وكان السادات بالفعل قد أعد
إسماعيل للقيام بهذه المهمة، وبدأت المراسلات بين إسماعيل ونظيره كيسنجر.
فكيسنجر هو مهندس السياسة الخارجية
الأمريكية، وسوف يظل اسمه علامة في الصراع العربي – الإسرائيلي خاصة في الحقبة
الممتدة بعد عام 1973، فقد كان من ضمن3 اليهود السبعة الذين شغلوا مناصب حساسة في
الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس نيكسون.
وقد مارس إسماعيل ضغوطًا قوية من خلال
اتصالاته بكيسنجر - كما تشير الوثائق الأمريكية - حيث بعث إليه برسالة في الأول من
فبراير 1973، محذرًا من أنه في طريقه إلى إجراء محادثات مع الاتحاد السوفيتي، وهدد
بأن مصر ستتخذ قرارات لا رجعة فيها إذا لم يحدد تاريخ اللقاء بينهما، وكان أول
اجتماع سري بين كيسنجر وحافظ إسماعيل في 25 فبراير 1973 بمنزل ريفي - يملكه دونالد
كندل Donald Kendall رئيس مجلس إدارة شركة البيبسي كولا، وفوجئ إسماعيل بمقترحات من
كيسنجر تدعو مصر إلى تقديم تنازلات جسيمة، فأكد له أنه على الرغم من حرص مصر على
التوصل إلى تسوية شاملة للنزاع العربي الإسرائيلي فإن ذلك لا يعنى السلام بأي ثمن،
وأبدى استياءه من هذه الأفكار التي اعتقد كيسنجر أنها مدعاة للتفاخر. وقد أدرك
كيسنجر أن إسماعيل لم يأت إلى الولايات المتحدة وسيطًا أو واعدًا بتسوية، وإنما
ليوجه إليها إنذارًا دقيقًا، وبدا أنه مُصِرّ على تسوية خلال عام 1973، ورفض
اتفاقًا مؤقتًا مثل الانسحاب من قناة السويس ما لم يشكل جزءًا من مخطط كامل يطبق
على مراحل وفي أقصر مدة ممكنة . ووجه كيسنجر رسالة إلى السادات من خلال
إسماعيل جاء فيها: "نصيحتي للرئيس السادات أن يكون واقعيًّا فنحن نعيش في
عالم الواقع ولا نستطيع أن نبني شيئًا على الأماني والتخيلات، والواقع أنكم
مهزومون فلا تطلبوا ما يطلبه المنتصر، لابد أن تكون هناك بعض التنازلات من جانبكم
حتى تستطيع الولايات المتحدة أن تساعدكم..."، وعندما تعذر على كيسنجر وحافظ
إسماعيل الاتفاق على جميع القضايا وعده إسماعيل بلقاء آخر.
وكان اللقاء السري الثاني بين حافظ إسماعيل
وكيسنجر يوم 20 من مايو 1973 في ضاحية "روتشفورت" بباريس، وبعد مباحثات
مطولة رفض حافظ إسماعيل الصياغة المرنة لأنها ستؤدى حتمًا إلى حيث أدى القرار 242
وستة أعوام أخرى من الجمود، وقد حاول حافظ إسماعيل أن يسجل موقفًا أمريكيًّا
محددًا ومكتوبًا لتأييد "السيادة المصرية"، ولكن كيسنجر رفض أن يضمن
إعلانًا أمريكيًّا به أي التزام حول الحدود الدولية.
وتناولت المباحثات عدة قضايا على رأسها
المشكلة الفلسطينية حيث أصر حافظ إسماعيل على أن السلام النهائي مع مصر رهن بحلها،
كما ناقش مسألة توازن القوى التي تمارسها الولايات المتحدة لصالح إسرائيل،
بالإضافة إلى التعاون النووي فيما بينهما، والتمويل الأمريكي لهجرة اليهود السوفيت
وتوطينهم في الأراضي العربية المحتلة عام 1967.
وكان إسماعيل يرغب في التوصل إلى صياغة
مقبولة لربط تسوية نهائية واتفاق مرحلى، ولكن كيسنجر لم يكن يقبل بغير مبادئ مرنة،
وفي فصل السيادة عن اعتبارات الأمن، وهذا ما رفضته مصر تمامًا، واعتبره إسماعيل
سيادة مهلهلة، كما أن مصر ليست على استعداد أن تعرض نفسها لعزلة دائمة بسبب
اتفاقية مؤقتة أو مفاوضات طويلة الأمد.
لقد حاور حافظ إسماعيل كيسنجر مرتين ساعيًا
لحل سلمي يغُني عن الحرب فأُفهم أن الصلح المنفرد والخروج من الصراع العربي الإسرائيلي والانضواء
في الفلك الأمريكي مشترطات لا تقبل المساومة في مقابل إعادة سيناء، لكنه رفض هذه
المساومة. وأكدت اجتماعات حافظ إسماعيل مع كيسنجر شكوك السادات المتزايدة بعدم
وجود أمل في جذب اهتمام الولايات المتحدة دون الذهاب إلى الحرب. لذا فقد حان وقت
الصدمة كما قال السادات. لقد حان الوقت لإحياء الخيار العسكري حرب أكتوبر 1973.
عمل إسماعيل في فترة شديدة الحساسية بالغة الصعوبة من تاريخنا الوطني،
ويرى البعض أنه بسبب انفراد السادات بالكثير من الأمور الخارجية والسياسية
والمتعلقة بالمفاوضات فضَّل الابتعاد عن الساحة، فقال من خلال مذكراته: "منذ
نوفمبر ومع إبرام اتفاقية النقاط الست – التي أفسحت المجال لإمداد مدينة السويس
والجيش الثالث بحاجاتهما المعيشية – تراجع إسهامي في المهام التي أصبح على قيادتنا
السياسية الاضطلاع بها، وفي منتصف فبراير 1974 غادرت مكتبي في قصر عابدين، وانتهت
مهام مستشار الرئيس للأمن القومي"، وإذا ربطنا بين تاريخ انسحابه من الساحة
السياسية وهو نوفمبر 1973 وبين الأحداث البارزة في ذلك الوقت، نجد أن أهم حدث كان
زيارة كيسنجر لمصر يوم 7 من نفس الشهر، حيث انفرد بالسادات دون حضور أي من
مستشاريه أو مساعديه - على غير العادة - ولم يتم تسجيل اللقاء، ومع ذلك لم يفصح
إسماعيل عن أسباب تراجع إسهامه في المهام السياسية ومغادرته لمنصبه.
ثم عينه السادات عام 1974 سفيرًا لمصر لدى الاتحاد السوفيتي، ثم
سفيرًا لمصر لدى فرنسا عام 1976 حتى عام 1979، وبعده اختفى رجل الأسرار والشخصية
الحديدية ولم يظهر في مناسبة عامة إلا عام 1993 عندما تم تكريمه من قبل معهد
الدراسات الدبلوماسية، إلى أن توفاه الله في 30 أكتوبر عام 2008.
كان «محمد حافظ إسماعيل» مثالاً للمصري
الوطني رفيع القدر مرفوع القامة عالي الهامة يتميز بالشموخ والكبرياء في لحظات
الانتصار والانكسار على حدٍ سواء، وتميز دائمًا بالكفاءة المطلقة والجدية الكاملة
ونظافة اليد وعفة اللسان، ولقد أبلى الرجل دائمًا بلاءً حسنًا في المفاوضات والمباحثات
والمنظمات لأنه كان صاحب عقلية مرتبة للغاية وشخصية جادة في كل الظروف..
أهم المصادر والمراجع :
محمد حافظ إسماعيل: أمن مصر القومي فى عصر
التحديات، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة 1987.
هنري كيسنجر: مذكرات كيسنجر في البيت الأبيض
1967 – 1973، ج2 – 3، ترجمة خليل فريجات، دار طلاس للدراسات والترجمة، بيروت 1985.
مقابلة شخصية: مع السفير إيهاب وهبة الذي كان
منتدبًا للعمل في وزارة الخارجية المصرية بمكتب مستشار الرئيس للأمن القومي 1971 –
1973، وكان ضمن أعضاء الوفد الذي حضر اللقاءات السرية بين حافظ إسماعيل وكيسنجر.
Foreign Relations
Of The United States: 1969 – 1976, Arab- Israeli Crisis And War, 1973, Volume
Xxv, United States Government Printing Office, Washington 2011.
Henry A.
Kissinger: years of Upheaval, little Brown and co, Boston 1982.