بقلم: نسمة سيف الإسلام
باحثة دكتوراه – كلية الآداب – جامعة القاهرة
يرتبط مصطلح الدبلوماسية عمومًا بين الدولة
والدول الأخرى وإدارة العلاقات فيما بينهما ؛ فالدولة لا يمكن أن تحيا بمفردها
بمعزل عن الدول الأخرى، بل لابد أن تكون هناك صلات معينة، وهذه العلاقات الدولية
لابد أن تتم وتدار من خلال وسائل منظمة تخضع لقواعد، ويطلق عليها اسم
"الدبلوماسية" فالدبلوماسية هي الوسيلة التي يتم بها التواصل بين الدول
من أجل الوصول إلي هدف محدد تضعه السياسة الخارجية لكل دولة.
وبهذا المعني، لا يجوز الخلط بين الدبلوماسية
والسياسة الخارجية، فالسياسة الخارجية قرار تصنعه السلطات المختصة، و أما
الدبلوماسية فهي وسيلة تنفيذية للسياسة الخارجية، أي أن الدبلوماسية ليست هدفًا في
ذاتها، وإنما هناك أهداف معينة تحددت بقرارات سياسية وتسعي الدبلوماسية لتنفيذها،
ورغم أن الدبلوماسية في الأصل يمارسها الممثلون الرسميون للدولة "الدبلوماسية
الرسمية" فإن تطور حركة المجتمع الدولية، أدي إلي تعدد الأطراف المؤثرة في
القرار السياسي في مختلف الدول، ومن ثم فإن التعبير عن مصالح الدول لم يعد وقفًا
علي ممثليها الرسميين، وإنما أصبح من الممكن أن يقوم بهذا العمل شخصيات أو مؤسسات
اجتماعية لها ثقلها في المجتمع مع نظرائهم في الدول الأخرى ويسمي هذا التحرك غير
الرسمي عادة "الدبلوماسية الشعبية" لأنة يتم بصفة شخصية أو مع الأجهزة
المناظرة في الدول الأخرى و قد تطورت هذه الدبلوماسية الشعبية بدورها وبدأت تأخذ
شكلاً مؤسسيًا، فأصبحت الأحزاب تتصل ببعضها البعض، وكذلك المؤسسات و الجمعيات
الأهلية .
وسوف تناقش هذه الورقة النشاط الدبلوماسي
المصري خلال النصف الأول من القرن العشرين.
تطور الجهاز الدبلوماسي المصري الرسمي حتى عام
1936:
جاءت بدايات الجهاز الدبلوماسي المصري في عهد
محمد علي باشا، أثناء عملية بناء الدولة الحديثة في مصر مع إنشاء ديوان التجارة
والأمور الأفرنكية في عام 1826، وكان الدور المحدد لهذا الديوان متوافق مع سياسة
احتكار التجارة الخارجية من جانب محمد علي باشا، حيث اقتصر دور الديوان علي
الاهتمام بالمسائل المتعلقة بمعاملات الحكومة مع الأهالي والأجانب في التجارة، وفي
مبيعات متاجر الحكومة ومشترياتها. وقد جري
إسناد رئاسة هذا الديوان إلي باغوص بك، الذي كان يعمل مترجمًا عند محمد علي باشا،
وكان معروفًا بمعلوماته الوفيرة عن الأسواق الأوروبية والوحدات السياسية في أوربا.
وفي الفترة التي أعقبت محمد علي، استمر
التنظيم الإداري الذي أقرة محمد علي عام 1837 بشأن تنظيم الدواوين دون تعديلات
كبري حتى عام 1878 حيث تحددت وظائف نظارة الخارجية في منع الرقيق ومتابعة
المعاهدات الدولية والمطابع الأوروبية و المحلية بالإضافة إلي تغيير اسم مديري
عموم الدواوين إلي نظار،وتحول ديوان الأمور الأفرنكية إلي نظارة الخارجية وتولي رئيس
النظار نوبار باشا بنفسه منصب ناظر الخارجية إلي جانب منصب رئيس النظار حتى عام
1879، وقد ارتبطت هذه الوظائف أساسًا بحدوث زيادة ضخمة في حجم الوجود الأوروبي في
مصر في عهد سعيد وإسماعيل، بفعل حالة الانفتاح الواسع علي أوروبا وقتذاك، وأيضًا
بسبب الامتيازات الهائلة التي تمتع بها الأجانب في مصر في تلك الفترة و تعاقب منذ
الاحتلال البريطاني عام 1882 حتى الحرب العالمية الأولي عدد من نظار الخارجية كان
من أبرزهم بطرس غالي باشا الذي شغل هذا المنصب لمدة 16 عام.
ومع قيام الحرب العالمية الأولي، أعلنت
الحكومة البريطانية فرض الحماية علي مصر في ديسمبر 1914، وألغيت نظارة الخارجية
المصرية التي كانت تمثل رمزًا لسيادة مصر الخارجية وأصبحت الشئون الخارجية المصرية
من اختصاصات ممثل بريطانيا في القاهرة، حيث كان بمثابة المتحدث الرسمي باسم مصر مع
العالم الخارجي. وخلال تلك الفترة تحول اسم النظارة إلي وزارة، وعلي الرغم من
موافقة بريطانيا علي إنشاء وزارة خارجية في مصر، إلا إنها ظلت تعرقل انضمام مصر
إلي منظمة عصبة الأمم كما رفضت الحكومة البريطانية أن يصل مستوي التمثيل
الدبلوماسي لمصر في الخارج علي مستوي السفارات، وإنما جعلته قاصرًا علي مستوي
دبلوماسي أسمته "وزير مفوض"، فضلاً عن منع الحكومة المصرية من إبرام أي
اتفاق سياسي مع دولة أجنبية بدون الحصول علي الموافقة البريطانية علي ذلك وفي إطار
المصالح المتبادلة بين الدول الاستعمارية الكبرى راعت الكثير من الدول الاشتراطات
البريطانية علي السياسة الخارجية المصرية.
وكان من أبزر وزراء الخارجية في تلك الفترة
أحمد حشمت باشا الذي قام بتنظيم العمل في الوزارة وبدأ عمله بالفعل في أول ديوان
لوزارة الخارجية في قصر البستان الذي كان ملكًا للملك فؤاد وقام بوضع الهيكل
التنظيمي للعمل في الوزارة، وخلال الفترة الأولي لنشأة وزارة الخارجية المصرية
ركزت الدبلوماسية الرسمية عملها علي قضية الاستقلال الوطني وقامت وزارة الخارجية
بدور فعال خلال المفاوضات المصرية – البريطانية ولهذا السبب احتفظ كثير من رؤساء
الحكومات بمنصب وزير الخارجية حتى يتمكنوا من ممارسة العلاقات السياسية الدولية في
إطار مطالب مصر الوطنية بالإضافة إلي الحرص علي أن يتولي رئيس الوزراء مهمة التفاوض
مع بريطانيا بنفسه.
وقد ظل هذا الوضع قائمًا حتى التوقيع علي
معاهدة 1936 حيث سمحت بريطانيا لمصر بعدها برفع مستوي التمثيل الدبلوماسي إلي
مستوي السفراء ووضع التمثيل الدبلوماسي البريطاني في القاهرة في نفس درجة التمثيل
الدبلوماسي في لندن ولكن في الوقت نفسه تضمنت المعاهدة قيدًا رئيسيًا يتمثل في منع
مصر من اتخاذ أي موقف – في علاقتها الخارجية - يتعارض مع علاقة التحالف مع
بريطانيا وبعد ذلك في مايو 1936 انضمت مصر إلي عصبة الأمم، لتصبح الدولةرقم56 في
المنظمة الدولية.
وفي
عام 1945 انضمت مصر إلي منظمة الأمم بعد تكوينها عقب الحرب العالمية
الثانية، وبعد فشل المباحثات المصرية البريطانية لاستقلال مصر عقب الحرب العالمية
الثانية قامت الحكومة المصرية برئاسة النقراشي باشا بتقديم عريضة إلي مجلس الأمن
في 11 يوليو 1947 طالبت فيها بجلاء القوات البريطانية عن مصر والسودان وإنهاء
النظام الإداري القائم في السودان ولكن نظرًا لعدم قوة حجة الوفد المصري من جهة
والخلافات في الجبهة الداخلية بين الأحزاب المصرية لم ينجح مسعى الحكومة المصرية
في هذا التحرك، وخلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية شهدت وزارة الخارجية
المصرية نقلة نوعية هامة عندما قام وزير الخارجية محمد صلاح الدين بتطوير الهيكل
لوزارة الخارجية بغرض التكيف مع التحولات الدولية بعد الحرب- المتمثلة في ضعف
مكانة بريطانيا وفرنسا كقوي عظمي في مقابل ازدياد قوة وتأثير الولايات المتحدة والاتحاد
السوفيتي – فقام بإنشاء إدارات سياسية وجغرافية للتكيف مع التحولات في النظام
الدولي والعلاقات الدولية، وكان أخر وزير خارجية قبل قيام ثورة 23 يوليو 1952 هو
عبد الخالق حسونة باشا الذي تولي المنصب في الفترة من 22 يوليو إلي 24 يوليو 1952.
الدبلوماسية الشعبية والدفاع عن قضية استقلال
مصر:
تأتي جهود مصطفي كامل باشا زعيم الحزب الوطني
في الدعاية للقضايا المصرية و التنديد بسياسة الاحتلال البريطاني كبداية لعمل
الدبلوماسية الشعبية في مطلع القرن العشرين،فكان لرحلاته الأوربية واتصاله برجال
السياسة في معظم الدول الأوربية أكبر الأثر في إحراج الموقف البريطاني في مصر في
تلك الفترة، ففي أعقاب حادث دنشواي عام 1906 قام بالتنديد بالحادث في الصحف
الأوروبية ثم توجه إلي لندن وأرسل بيان للصحف هناك وصف فيه الحاث بأنه يوم لن ينسي
في الوحشية واتخذ من الحادث ركيزة للمطالبة باستقلال مصر ثم قام بالاتصال بأعضاء
مجلس العموم البريطاني من الأيرلنديين وحزبي العمال والأحرار مما كان له دورًا
هامًا في استقالة اللورد كرومر وتركه لمنصبة في 6 مايو 1907 وتعيين السير
"الدن جورست".
ويستكمل الزعيم محمد فريد النضال الوطني في
داخل مصر وخارجها بعد وفاة مصطفي كامل باشا، وأما عن الدبلوماسية الشعبية فقد كان
له نشاط واسع بها فقد كان حريصًا علي الدفاع عن استقلال مصر في مختلف المحافل
الدولية ومن أهم مظاهر ذلك أنه في عام 1912 حضر مؤتمر السلام في جنيف ووزع علي
الأعضاء مذكراته عن القضية المصرية التي تقرر عرضها في النهاية علي المؤتمر وأصدر
فيها قراره القاضي بضرورة الجلاء فورًا عن مصر لأن الجلاء عن مصر كما جاء في نص
القرار هو "خدمة للسلام العالمي".
كان للحركة الطلابية دورًًا هامًا في الحياة
السياسية في مصر، وكان من أهم مظاهر المشاركة في الانتفاضة الوطنية عام 1935 ولم
يقتصر دور الحركة الطلابية علي الداخل فحسب بل امتد إلي الطلبة المبعوثين للخارج
الذين انتفضوا بدورهم و بعثوا برقيات احتجاج إلي عصبة الأمم علي عدوان قوات
الاحتلال علي الطلاب في مصر، و أيضًا شارك طلبة كلية الطب المنتمين لجماعة مصر
الفتاة في إعداد كُتيب من خمسين صفحة يضم صورًا فوتوغرافية للقتلى والجرحى، وأرسلت
نسخة منه للصحافة البريطانية للتشهير بسياسات الاحتلال في مصر.
وفي شهر ديسمبر عام 1936 سافر أحمد حسين رئيس
جمعية مصر الفتاة مع وفد من الجمعية إلي أوربا بهدف الدعاية للقضية المصرية وكانت
البداية في لندن وتركز النشاط في إرسال بيان للصحف للمطالبة باستقلال مصر
والاعتراف بحقوق مصر في السودان وإقامة الاجتماعات مع الشخصيات العامة لشرح القضية
المصرية وتم عقد لقاء مع أعضاء حزب العمال البريطاني و كانت المحطة التالية في
جنيف وقدم أحمد حسين مذكرة إلي السكرتير العام لعصبة الأمم في 30 يناير 1936
للتنديد بالعنف البريطاني في مواجهة انتفاضة عام1935. فكانت محصلة الرحلة الترويج
للقضية المصرية بشكل كبير.
وكان للحركة النسائية أيضًا دورًا فعالاً في
النشاط الدبلوماسي الشعبي، ولعل أولي مظاهر ذلك تأتي أثناء ثورة 1919 فعندما خرجت
مظاهرات اللجنة النسائية للنساء الوفديات برئاسة السيدة هدي شعراوي كان المقرر أن
تتوجه إلي مقرات القنصليات ومعتمدي الدول الأجنبية لتقديم احتجاجات مكتوبة ضد
العنف البريطاني في مواجهة الثورة الشعبية ولكن تمت محاصرة المظاهرة من القوات
البريطانية عند مقر بيت الأمة وأثناء ذلك الوقت، توجه الطلبة إلي الفارة الأمريكية،
ثم إلي سفارتي إيطاليا وفرنسا، فقام السفير الأمريكي بالتوجه إلي موقع الحصار
والتقط بعض الصور للمظاهرة مما دفع حكمدار القاهرة الإنجليزي إلي مطالبة السيدات
بإنهاء المظاهرة وتم ذلك بالفعل ولكن بعد أن قام السيدات بتقديم احتجاجهن علي مسلك
قوات البريطانية إلي سفارات الدول الأجنبية مما كان له دور كبير في إحراج بريطانيا
في الصحف الأوربية.
وعلي المستوي الدولي شاركت المرأة المصرية من
خلال الاتحاد النسائي – تم تأسيسه عام 1923 عقب خروج السيدة هدي شعراوي من لجنة
الوفد للسيدات – في العديد من المؤتمرات الدولية كانت بدايتها في مؤتمر الاتحاد
النسائي الدولي عام 1923 و نجح الاتحاد النسائي المصري بعد العديد من المشاركات
الناجحة في الحصول علي تأييد الاتحاد النسائي الدولي في مطلبه الخاص بإلغاء
الامتيازات الأجنبية في أثناء مؤتمر برلين الدولي عام 1929 وكان لقوة حجة الوفد
المصري وإظهار مساوئ هذا النظام فأصدر مؤتمر برلين النسائي الدولي استنكارًا لوجود
هذا النظام في مصر وأعادت السيدة هدي شعراوي الكره عام 1935 في المؤتمر النسائي في
اسطنبول وهناك استطاعت الحصول علي إجماع من وفود الدول المشاركة بضرورة تنازل
حكومات الدول عن امتيازاتها في مصر وساعد ذلك الحكومة المصرية عام 1937 في مؤتمر
مونترو علي إلغاء الامتيازات الأجنبية رسميًا من البلاد.
ويتضح مما سبق مدي نشاط الحراك الدبلوماسي
المصري في الصف الأول من القرن العشرين فعلي الرغم من عوائق الاحتلال البريطاني
إلا إنه كان للدبلوماسية الشعبية والرسمية دورًا في الدعاية لقضية استقلال مصر عن
الاحتلال البريطاني في المحافل الدولية المختلفة.