جديد المقتطف

الأحد، 4 ديسمبر 2016

من أعلام الفكر الإسلامي: ابن السكن المصري وصحيح الإمام البخاري

بقلم الدكتور/ محمود محمد خلف
عضو اتحاد المؤرخين العرب

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، والصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، وبعد:

فقد سبق الحديث - في مقال سابق - عن الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح [مجلة البشرى الكويتية]، وحديثنا في هذا المقال يدور حول علم من أعلام المُحَدِّثين، رحل إلى بخارى وسمع بها كتاب الجامع الصحيح، ثم عاد لينشره بين طلاب العلم في مصر، ومن طريقه وصل إلى بلاد المغرب والأندلس، إنه العلامة ابن السكن المصري.

مِنْ أَعْلاَمِ الفِكْرِ الإِسلاَمِيِّ
ابْنُ السَّكَنِ الْمَصْرِيّ ... وصَحِيحُ الْإِمَامِ الْبُخَارِيُّ
 [294 ــــ 353 هـ / 907 ـــــ 964 م]

مولده ونشأته:
هو: الإمام سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن، المكني بأبي علي المصري، المشهور بالبزاز، لعمله في تجارة البز. ولد في مدينة بغداد سنة [294هـ/ 907م]، ورُزق حب الحديث منذ صغره، فسمع ببغداد، أبا القاسم البغوي، ويحيى بن محمد بن صاعد، وأبا بكر ابن أبي داود، ومحمد بن منصور الشعبي، وأبا حامد الحضرمي، وأبا عبيد القاسم، وأبا عبد الله الحسين ابني إسماعيل المحامليين، وأحمد بن إسحاق بن بهلول، وغيرهم. ثم رحل إلى مدينة واسط، فسمع بها علي بن عبد الله بن مبشر، وجسر بن محمد الواسطي، ومحمد بن محمود الواسطي. وسمع  بالأُبلة أبا يعلى محمد بن زهير بن الفضل الأُبلي، ومحمد بن غسان ابن جبلة العتكى، وبالبصرة سمع أبا علي محمد بن سليمان المالكي، وبالكوفة سمع أبا العباس ابن عقدة، وعمر بن أحمد الجوهري، وطبقتهم.
وبعد هذه الرحلة في بلدان العراق، رحل إلى دمشق  فسمع بها محمد بن خزيم، وطاهر ابن محمد، وأبا الحسن بن جوصا، ومحمد بن عبد الحميد المؤدب، وسالم بن معاذ، ومحمد ابن بكار، وسعيد بن عبد العزيز الحلبي، وأبا عروبة الحراني، وغيرهم.
وبعد أن طوّف ببلاد الشام، قرر ابن السكن أن يرحل إلى مصر، ليسمع بها من محمد ابن أيوب الصموت، ومحمد بن زيان، ومحمد بن بشر العُكبرى، وعلى بن أحمد، وأبا جعفر الطحاوي ومحمد بن محمد بن بدر الباهلي، وغيرهم.
خرج ابن السكن من مصر إلى بلاد خراسان، فسمع بنيسابور أبا حامد بن الشرقي، ومكي ابن عبدان، كما سمع بمرو، وسرخس. ثم عبر نهر جيحون [سر دريًا حاليًا]، ليضع أقدامه ببلاد ما وراء النهر [آسيا الوسطى حاليًا]، فدخل بخارى [أهم مدن دولة أوزبكستان حاليًا] سمع بها " الجامع الصحيح " للإمام البخاري، برواية محمد بن يوسف الفربري  ثم عاد بعدها إلى مصر.
هكذا، كانت رحلة ابن السكن العلمية العراق، والشام، ومصر، وخراسان، وبلاد ما وراء النهر، ثم الاستقرار بمصر.

النشاط العلمي لابن السكن:
كانت رحلة ابن السكن إلى ما وراء النهر، رحلة مباركة، أسفرت عن نتائج خطيرة في دراسة علم الحديث في مصر، بل في بلاد المغرب الإسلامي، فقد تعرف المصريون لأول مرة على كتاب "الجامع الصحيح" للإمام البخاري، الذي انفرد ابن السكن بسماعه من الفربري. يقول الذهبي: "سمع ابن السكن صحيح البخاري من محمد بن يوسف الفريري، فكان أول من جلب الصحيح إلى مصر، وحدث به ". وعلى ذلك، يكون ابن السكن جسرًا ثقافيًا حقيقيًا بين بلاد ما وراء النهر ومصر بل قل بين المشرق والمغرب.
كان من الطبيعي أن يلتف طلاب العلم حول ابن السكن للسماع منه، خاصة إنه كان "كبير الشأن مكثرًا، متقنًا، مُصَنِّفًا، بعيد الصيت" كما يقول ابن تغري بردي. يضاف إلى ذلك إنه "جمع، وصَنَّف، وجَرّح، وعدّل، وصَحّح، وعلّل"، ورُزق حُسن الصوت، والأداء، وقوة الذاكرة. كل هذه العوامل، أو قل: المقومات الشخصية، جعلت طلاب العلم يلتفون حوله، فكان من أشهرهم: أبو سليمان بن زبر الربعي، وأبو عبد الله بن مَنْده، وعبد الغني بن سعيد، وعلي بن الدقاق. بل رحل إليه طلاب العلم من المغرب والأندلسي، ومن أشهرهم: أبو القاسم خلف بن القاسم بن سهل الأندلسي، ومحمد بن أحمد بن محمد بن مفرج الأندلسي، وأبو محمد عبد الله بن محمد الجهني الأندلسي، وعبد الله بن محمد بن أسد القرطبي، والقاضي محمد بن أحمد بن مفرج، وغيرهم. قال الذهبي: "ولم نرَ تواليفه. هي عند المغاربة، وحديثه يعز وقوعه لنا" وقال في موضع آخر: "وتلامذته جماعة من الأندلسيين والمصريين". وهذا يثبت صحة ما ذكرته منذ قليل من أن ابن السكن كان جسرًا ثقافيًا، عبر عليه علم الحديث - خاصة صحيح الإمام البخاري - من بلاد ما وراء النهر إلى مصر ومنها إلى بلاد الأندلس.

مُصَنَّفاته:
لم يكتفِ ابن السكن بالتعليم، وسماع الطلاب منه، بل صنف كُتبًا هامة في علوم الحديث المختلفة، ومنها:
          أ‌-         كتاب: "الصحيح المنتقى" المعروف بـ "السنن الصحاح" أو "السنن في الحديث". وهو كتاب محذوف الأسانيد، جعله أبوابًا في جميع ما يحتاج إليه من الأحكام، فمنه ما صح عنده من السنن المأثورة. قال في مقدمته: "وما ذكرته في كتابي هذا مجملًا فهو مما أجمعوا على صحته، وما ذكرته بعد ذلك مما يختاره أحد من الأئمة الذين سميتهم، فقد بنيت حجته في قبول ما ذكره ونسبته إلى اختياره دون غيره. وما ذكرته مما ينفرد به أحد من أهل النقل للحديث فقد بينتُ علته ودللت على انفراده دون غيره".
       ب‌-       كتاب: "معرفة أهل النقل". قال عنه ابن عساكر: "ورأيتُ له جزءًا من كتاب كبير صَنَّفه في معرفة أهل النقل، يدل على توسع في الرواية".
هذا، ويعد الكتاب الأول، أعني " الصحيح المنتقى " أهم كتب ابن السكن على الإطلاق، ويرجع سبب التأليف، إلى أن شبابًا من المُحَدِّثين طلبوا من ابن السكن الاقتصار على كتاب واحد من كتب السُنَّن، فدخل " إلى بيته وأخرج أربع رزم، ووضع بعضها على بعض، ثم قال: هذه قواعد الإسلام؛ كتاب البخاري، وكتاب مسلم، وكتاب أبي داود، وكتاب النسائي. ثم شرع في تأليف كتابه، رغبة منه في تسهيل علم الحديث على الناس عامة، وشباب المُحَدِّثين خاصة.
على كل حال، لقى هذا الكتاب قبولًا عظيمًا عند الناس، وخاصة أهل الأندلس. حتى قال الذهبي: "وقع كتاب المنتقى الصحيح [هكذا] إلى أهل الأندلس وهو كبير". وكان ابن حزم الأندلسي [384 - 456هـ/ 995 - 1063م] يثني على هذا المُصَنَّف. وهذه شهادة لها ثقلها، خاصة إذا صدرت من مثل ابن حزم.
هكذا كان ابن السكن، بغدادي المولد، مصري المنشأ، أحب مصر فسكنها، ونُسب إليها، فقيل له: "المصري". وأهدى إلى طلابها  كتاب "الجامع الصحيح" للإمام البخاري. هذا الكتاب الذي ظل مجالًا للبحث والتأليف عدة قرون بعد ابن السكن، بل عبر من مصر إلى بلاد المغرب والأندلس. ولا غرابة، فقد كان ابن السكن "حجة في علم الحديث" كما قال المؤرخون.
وهكذا أستطيع القول، إن العلاقة الثقافية بين مصر وبلاد ما وراء النهر توجت بزيارة الإمام الْبُخَارِيُ إلى مصر في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وبزيارة ابن السكن المصري إلى بلاد ما وراء النهر في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. وكلا العالِمين كان له تأثير كبير على حركة جمع وتدوين الحديث.
ولكن من الغريب حقًا أن يتأخر دخول صحيح الإمام الْبُخَارِيّ إلى مصر مدة ما يقرب من قرن من الزمان. فقد توفى الإمام الْبُخَارِيّ عام [256هـ/ 870م] وابن السكن المصري، الذي حمل الصحيح إلى مصر توفى عام [353هـ/ 964م] وهذا أمرٌ يحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة.
يضاف إلى ذلك، أن مصر كانت جسرًا حقيقيًا في نقل العلوم كافة، وعلم الحديث خاصة، وصحيح الْبُخَارِيّ على وجه الخصوص إلى بلاد المغرب والأندلس؛ الذين سمعوه في مصر على يد المُحَدِّث ابن السكن المصري.
وهكذا يتضح لنا أن علم الحديث قد وصل إلى أقصى نضج له في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وذلك بظهور صحيح الإمام الْبُخَارِيّ  ثم الكتب السِتة، التي أجمع علماء الأمة على صحتها. وأما القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، فقد شهد جدبًا علميًا في مجال التأليف في علم الحديث، فلم نحصل على كتاب جامع في علم الحديث خلال هذا القرن، باستثناء كتاب " صحيح المنتقى " لابن السكن المصري، الذي لم يصلنا هو الآخر.
لذلك أهيب بشباب المُحَدِّثين بجدية البحث عن هذا الكتاب ــــ إن كان موجودًا ــــ والقيام بطبعه لإلقاء مزيد من الضوء على منهج ابن السكن المصري في تصنيف هذا الكتاب، وهل تأثر في ذلك بكتاب " الجامع الصحيح " للإمام الْبُخَارِيّ الذي حمله إلى مصر أم لا؟!.

وفاته:
على كل حال، توفى ابن السكن - رحمه الله تعالى - في المحرم سنة [353هـ/ 964م] ودفن بالقرافة بجبل المقطم  بأرض مصر، التي عاش فيها، ونشر علمه بين أهلها، فأعطته الشهرة والثقة. فالله أسأل أن يجزل له الثواب في الآخرة على ما قدّم من خدمة للسُنَّة النبوية وصحيح الإمام البُخَارِيّ.