جديد المقتطف

الأربعاء، 27 يناير 2016

جون كلود قارسان وألف ليلة وليلة

عنوان الكتاب باللغة العربية
من أجل قراءة تاريخية لألف ليلة وليلة
عنوان الكتاب باللغة الفرنسية
Jean-Claude Garcin
Pour une lecture historique des Mille et Une Nuits
Paris, Sindbad/Actes sud, 2013
المؤلف: جون كلود قارسان.
عدد الصفحات 805 صفحة
*  *  *

عرض: د. أحمد يحيى العامر
جون كلود قارسان  Jean-Claude Garcinمستشرق فرنسي، كان لي شرف التعرف إليه عن قرب عام 2008 في مدينة اكس أن بروفانسAix-en-provence  الفرنسية، عندما كنت أحضِّر لرسالة الماجستير، وكان متقاعداً في ذلك الوقت، ويعمل في تأليف كتاب ألف ليلة وليلة، واستمرت علاقتنا وتطورت إلى صداقة قوية خلال فترة التحضير للدكتوراه، فقبل - على الرغم من كل التزاماته - متابعة تطور بحثنا في الدكتوراه، وتزامن عملنا على أطروحة الدكتوراه مع عمله في تأليف كتابه "من أجل قراءة تاريخية لألف ليلة وليلة" الذي كنا نطلع دائما على تطورات العمل فيه حتى أصبح لنا الشرف أن نكون من أوائل من قرأ هذا الكتاب من خلال نسخة مهداة من قبل قارسان شخصياً.
جهد كبير ومعرفة دقيقة بالتاريخ الإسلامي بشكل عام، والمملوكي بشكل خاص، كان واضحا في هذا الكتاب، ليكون واحداً من أهم الكتب التي ستتداولها الأجيال القادمة من الباحثين كمرجع مهم لأبحاثهم، ونظرا لاعتراف المؤرخين والأدباء بمكانة الكتاب، فقد كان مرشحاً من بين سبعة كتب للحصول على الجائزة الكبرى الممنوحة من قبل معهد العالم العربيInstitut du monde arabe  بباريس عام 2015.
لقد استغرق العمل على هذا الكتاب عشر سنوات، ودون أي نية لدراسته من الناحية الأدبية، لكننا سنهتم بدراسته كمادة تاريخية. وفي البداية اعتمد قارسان في دراسة كتاب ألف ليلة وليلة على طبعة بولاق الصادرة عام 1835 باللغة العربية، والتي تتألف من جزأين (1330 صفحة تقريبا). ولقد كان كتاباً فخماً وغالي الثمن بشكل كبير، حيث إن سعره في ذلك الوقت وصل إلى 100 قرش. وهذا السعر لم يكن في متناول عامة الشعب آنذاك، ويبدو أنه لم يكن موجهاً لهم.
سخر قارسان خبرة ثلاثين عام أمضاها في دراسة وتحليل النصوص العربية من أجل القيام بدراسة دقيقة لحكايات الكتاب وتحديد تاريخها، واعتمد في ذلك على الإشارات الموجودة في النص العربي، والتي تخص هياكل الحكم، السكن، اللباس، أشكال العبادة... إلخ. وكانت النتيجة المهمة التي توصل إليها بعد تجميع الإشارات النصية، هي وجود مرحلتين أو أكثر لكتابة نص القصة.
هذه النتيجة تؤكد ما ذكره الرحالة الألماني سيتزنSeetzen  الذي مر بمصر سنة 1809، بأن أصل المخطوطات التي اعتمدت عليها طبعة بولاق عام 1935 هي نتاج عمل قام به رجل دين بعد سنة 1750. وعلى الأغلب بين سنة 1760 و 1770، ولم يذكر الرحالة اسم هذا الشيخ. ويصف قارسان طريقة عرض الكتاب قبل صدور نشرة بولاق عام 1835 بقوله: كان الكتاب على شكل مخطوطة ضخمة جداً تقع في أربعة أجزاء منقولة عن مخطوطة غير مؤرخة موجود بعض منها، وكان بعنوان (ألف ليلة وقصص قديمة). القصص في هذا الكتاب كثيرة، ومواضيعها تهتم بالبلاد العربية من فترة قبل الإسلام إلى القرن الثالث عشر، لكن هذه القصص في غالب الأحيان قصيرة، ولا تملأ أكثر من 12 بالمئة من النص المنشور في هذه الطبعة. ويجب الإشارة إلى أن العنوان (ألف ليلة وقصص قديمة) اختصر فيما بعد من قبل الناشر عام 1835 إلى (ألف ليلة وليلة).
حاز كتاب (ألف ليلة وقصص قديمة) على اهتمام كبير لسببين، الأول: أنه كان يجمع، ويضم مجموعة من القصص أكثر من الموجودة في كتاب (ألف ليلة وليلة) الصادر عن مطبعة بولاق 1835 . والثاني: عندما كتب شيخ القرن الثامن عشر هذا الكتاب ذَكر القصص القديمة لألف ليلة وليلة من بغداد، والتي لم تعد موجودة.
يشير قارسان إلى النجاح الكبير الذي عرفته ألف ليلة وليلة في أوربا عندما قام المستشرق انطوان قالان Antoine Galland بنشر ترجمات لمخطوطة أتى بها من سورية، وحذف منها كل ما يخدش الحياء، وهي مخطوطة محفوظة بالمكتبة الوطنية في باريس Bibliothèque Nationale de Paris وحققت عام 1984 من قبل الباحث العراقي محسن مهدي، وتبدأ كل الطبعات العربية لألف ليلة وليلة بما يسمى (حكايات قالان) les contes de Galland واكتشفوا منذ زمن أن هذه القصص تعود إلى القرن الخامس عشر، لذلك اختار قارسان أن يبدأ تحليله ودراسته بهذه الحكايات، بعد مقارنتها مع نص شيخ القرن الثامن عشر، ووجد أن الأخير قام بتصليح النص. وعلى الرغم من عدم معرفة من يكون هذا الشيخ، إلا أن قارسان استطاع أن يفهم هدفه من كتابة هذا الكتاب.
واعتمد قارسان أيضاً على طبعة لألف ليلة وليلة غير متفق عليها، نشرت في برسلو Breslau في بداية عام 1824 من قبل الألماني مكسميليان افيشتMaximilien Habicht  تسمى طبعة برسلوl'édition de Bresla  ولقد انتقدت هذه الطبعة، واعتبرت فيما بعد مغلوطة وغير صحيحة، ولا توافق أي مخطوطة عربية. ولعل المستشرق الألماني جمع القصص، ووضعها في إطار قصة شهرزاد التي تروي كل ليلة حكايات للملك من أجل النجاة من الموت. ونظم هذا المستشرق القصص التي أتى بها من المغرب حسب منهج خاص به. ومع ذلك كان لهذا العمل جانب إيجابي بالنسبة لقارسان؛ لأنه حافظ من خلاله على النسخ القديمة لليالي. ومن خلال مقارنة هذه الطبعة مع طبعة بولاق  وجد قارسان أن الشيخ واصل إصلاح القصص كما عمل سابقاً. فمن الجانب اللغوي حاول أن يستعمل كلمات كلاسيكية أكثر، بالإضافة إلى أنه اهتم بإعطاء عبرة لكل قصة، وحذف منها كل ما رأى أنه خارج عن التقاليد والآداب، خاصة استعمال السحر أو العادات الجنسية الشاذة كاللواط. وبدا لقارسان أن الشيخ هو الذي كتب الخاتمة، والتي يعدها غير تافهة كما يمكن أن يظن. ويقال إن الخاتمة الكلاسيكية المعتادة لألف ليلة وليلة: شهرزاد تنجح بالنجاة من الإعدام من خلال روايتها للحكايات، خاصة عندما أنجبت للملك ثلاثة أبناء خلال الثلاث سنوات التي أمضتهم معه، فتزوجها الملك. كانت الخاتمة فرصة لشيخ القرن الثامن عشر أن يظهر شهرزاد في صورة الزوجة المثالية التي يراها في نفس الوقت متدينة وحسنة التربية والخلق، ومن وجهة نظره هي الزوجة المطلوبة؛ ليكون الثنائي مثالي، وهو عماد المجتمع المستقر الذي يعتمد - بنفس الوقت - على التطبيق المحكم للشريعة، وعلى احترام الفروق الاجتماعية.
واستطاع قارسان التوصل لفهم الليالي بعيداً عن القراءة الجنسية التي أعطاها مردروسMardrus  للأوربيين من خلال أعظم ترجمة قدمها في أوائل القرن العشرين، وبعيداً عن رجال الدين المصريين الذين عارضوا بشدة إعادة نشر ألف ليلة وليلة بحجة أنها تحريض على الرذيلة. وفي آخر الدراسة التحليلية أكد قارسان على وجود عبرة في نهاية كل قصة، والذي أصبحت عادة يمشي عليها شيخ القرن الثامن عشر.
وبجهد كبير استطاع قارسان أن يحدد التطور الذي أفرز مجموعة حكايات ألف ليلة وليلة. ولذلك رجع إلى "قصص قالان" في القرن الخامس عشر، وبعد دراسة دقيقة لهذه القصص توصل إلى أن المؤلف من دمشق، وأنه عاصر اجتياح المغول لها أوائل القرن الخامس عشر، وعلى ما يبدو أنه هاجر إلى سمرقند مع عائلته في ذلك الوقت. وبعد رجوعه إلى دمشق كتب لسكانها، على الأغلب بين عامي (1424/ 1436) ما كان يعتبره كتاب (ألف ليلة وليلة الجديدة)، وكان الكتاب مميزاً على الرغم من أنه استوحي من قصص قديمة.
هذا الكاتب لم يتجاهل القصص التي كتبت في زمنه بمصر، وسبق أن أشار إليها بالكتاب، وعلى ما يبدو كانوا بسورية يعرفون ما يكتب بمصر، والعكس. ويبدو أن المواضيع القديمة أصبحت مملة بالنسبة للشيخ الذي أراد - بشكل خاص - أن يتخلص من حكايات ألف ليلة وليلة القديمة العائدة إلى زمن العباسيين، لذلك ابتدع الكاتب سيناريوهات عجيبة تظهر خلال قصصه القصر العباسي في حال يرثى له، فهارون الرشيد يظهر غبيا، ويقوم بردات فعل غير مدروسة، وكثير الشرب للخمر، ووزيره جعفر يظهر كأنه ينتظر قرار إعدامه بكل لحظة، وكيف يحاول تهدئة هارون الرشيد دائما. ووصف الزوجة الصالحة لهارون الرشيد كإمرأة غيورة ومجرمة، مما دعى بقارسان إلى تسمية ذلك (الكوميدية العباسية) la Comédie abbasside التي حاول الشيخ إصلاحها بكل ما يستطيع. وبصفة عامة قام كاتب دمشق بالفصل بين القصة والرواية التاريخية، وبفضل ذلك استطاع قارسان أن يميز بينهما. في نفس الوقت بقى الشيخ بعيداً عن نواب السلطة المملوكية الذين لم يسامحهم عن تخليهم عن سورية للمغول، حيث إنه يعتبر السلطة المملوكية غبية وخطيرة، في حين أن ما يهمه هو دراسة الأحاسيس الإنسانية والسلوكيات. لهذا السبب أطلق عليه قارسان اسم مفكر السلوكياتle Moraliste  في القرن الخامس عشر، ولا يقصد بذلك المفكر الذي يعطي الدروس، ولكن الكاتب الذي يهتم بدراسة السلوكيات، كما كان يقال عن لابروييرLa Bruyère في فرنسا في القرن السابع عشر. ويرى قارسان أن الشيخ يعكس في أبطاله ما عاشه هو نفسه، التهجير القسري من سوريا الذي أمر به تيمور لنك Tamerlan كما عبر عن إحساس الهجرة من خلال أبطاله الذين كانوا في غالب الأحيان في وضعية الغريب.
ولقد توصل قارسان إلى نتيجة مهمة، وهي أن الاجتياح العثماني عام 1517 وضع حداً لإنتاج القصص في القرون الوسطى، وإن الفحص الدقيق للإشارات النصية يبين انتهاء جيل كامل قبل أن يعود السوريون والمصريون لكتابة القصص، وهي مدة زمنية كفيلة بنسيان الصدمة التي تعرضوا لها بع دخول العثمانيين إلى سورية ومصر. ولاحظ قارسان أنه في النصف الثاني من القرن السادس عشر ظهرت قصص جديدة، اصطلح على تسميتها "القصص الحديثة"les contes modernes  في إطار حكم سياسي عثماني مسلم به. وتمثل هذه القصص 56 بالمائة من حجم طبعة بولاق.
ويبدو لقارسان أن الذين أعادوا إظهار ألف ليلة وليلة اعتمدوا على (ألف ليلة وليلة الجديدة) لكاتب القرن الخامس عشر، مما يدل على أنها - حتى في الماضي- نالت على تقدير في سورية ومصر. وقيمة هذه القصص هي وراء نجاح ترجمة قالان Galland أيضا، وبالتأكيد فإن ترجمته كانت تندرج ضمن ظاهرة اكتشاف الشرقdécouverte de l'Orient  ولو كانت هذه القصص غير قيمة، لكان عدد قراء قالون أقل مما هو عليه.
على أية حال، من خلال ما قدمه قارسان نستطيع أن نرى بوضوح أكثر مما يسميه (قصص حديثة لألف ليلة وليلة). فالقصص الحديثة تهتم بمواضيع جديدة ومختلفة عن القصص القديمة. والأمر المهم هنا، والذي يخالف ظاهرياً ما كتب في القرن الخامس عشر، وهي ثلاثة قصص كبيرة حول السياسة، رجع الكاتب خلالها تاريخ الدولة العثمانية، ولكن ليس بمفهوم الرواية التاريخية المتعارف عليها الآن، فأبطال هذه القصص لا يحملون أسماء سلاطين ووزراء حقيقيين، وفي غالب الأحيان كانوا كخليط من شخصيات متعددة، ولكن في هذه القصص دائما مفتاح une clé يسير بالقارئ إلى ما يجب أن يفهمه، وهو معنى غير مخفي. ومن جهة أخرى اعتنى الكتاب في قصصه بالحديث حول البطولات العسكرية أو المغامرات العاطفية، وهي تحمل وجهين، الأول: يتعلق بجانب الاستمتاع وترفيه النفس من خلال الحديث عن معارك مشوقة، أو قصص حب غرامية، والثاني: يتعلق باستخلاص درس من القصة والاتعاظ به. وعلى حسب ما ذكره قارسان قل إنتاج القصص منذ أوائل القرن الثامن عشر، فالكتاب العرب لم يعودوا يهتمون بمصير الدولة العثمانية، لذلك فالواقع السياسي في ولاياتها كان موضوعاً لقصص قصيرة مختزلة، وفي بعض الأحيان هزلية. ولكن الشكل الأدبي لقصة ألف ليلة وليلة الحديثة قد ولى. وقد اعترض بعض الكتاب حتى على موضوع (المهاجر البائس)، فأصبحوا يقدموا (الهجرة) على أنها فرصة لعمل ثروة في بلدان جديدة، أو لعمل الموبقات في مدينة كبيرة لا يعرفهم فيها أحد.
وعلى أثر هذا التطور قرر الشيخ كتابة قصصه (التي هي بشكل عام جيدة وسابقة ببعض الشيء لعصره)، وكأنه شعر أن في زمنه إنتاج القصص الجيدة - والتي لها قيمة – قد توقف ولم يعد موجوداً. وتؤكد مخطوطة رينهارتle manuscrit Reinhart  المحفوظة في ستراسبورغ، والتي نسخت عام 1831، بشكل ما رأي شيخ القرن الثامن عشر. ووجد قارسان بعد تحليله لتلك المخطوطة الذي كتبها أبو بكر الشرايبي وقام بتحقيقها عام 1996، أن فيها قصصاً خفيفة تحتوي على خيال عجيب يلفت الانتباه، ويذكرنا بالروايات الشعبية الكبيرة أو سير القرن السادس عشر والسابع عشر، لكننا بعيدون عن الأشكال الأدبية لحكايات ألف ليلة وليلة القديمة، وكأن الكاتب خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر أراد أن يتحرر من هذا الشكل الأدبي.
وهكذا قام قارسان بدراسة تحليلية نقدية للعمل الذي قام به شيخ القرن الثامن عشر، فمكننا من معرفة تاريخ كتابة ألف ليلة وليلة الذي كان غائباً عنا، ولم يستطع أحد التوصل إليه أو الاهتمام به قبل قارسان. فمن المهم جداً معرفة في أي قرن كتبت القصة؛ لنفهم معناها ونستمتع به، كذلك كشف قارسان Garcin عن مشروع شيخ القرن الثامن عشر لكتابة ألف ليلة وليلة الذي كنا نجهله تماما. فكانت الإفادة كبيرة من هذا العمل الضخم بالنسبة للمؤرخين، وستكون أكبر للمختصين في دراسة ألف ليلة وليلة في حال تمت مراجعة معلوماتهم على ضوء الاكتشافات الجديدة المقدمة في هذا الكتاب.
وفي النهاية، هو كتاب ضخم (حوالي 800 صفحة) يحتوي على كم هائل من المصادر والمراجع بلغات متعددة، ولم تترك هوامشه وحواشيه صغيرة أو كبيرة إلا وأعطت لها تفسيراً، واحتوى على حقائق مهمة عرضت لأول مرة، وقدمت إضافة حقيقية في مجال التاريخ والأدب، بالإضافة إلى دقة وخبرة يتجاوز عمرها الثلاثين سنة في التعامل مع النصوص العربية.