بقلم: مصطفى محمود على
باحث دكتوراه فى التاريخ الحديث والمعاصر
لعلَّ هذه هي الحلقة الأخيرة من حواري مع أحد أبطال حرب الاستنزاف 1967 وحرب أكتوبر المجيدة عام 1973، وقد استعرضت
في الحلقتين السابقتين بعض ذكرياته عن حرب
الاستنزاف، ورحلة العودة المريرة من سيناء، سائراً على قدميه، شاهد فيها من
الأهوال ما يعجز القلم عن وصفه.. وقد أبكاني بكلامه عندما تحدث عن اليوم الذى
استشهد فيه البطل المغوار والقائد الميداني الفذ الفريق أول/ عبد المنعم رياض في
التاسع من مارس عام 1969.. كما تحدث عن مدى الحب والتقدير من كل القيادات للجنود،
واعتبروا أنفسهم جميعا قادة في قلب المعركة.. وأشار في حديثه – السابق -
إلى موقعة (إيلات) وهي إغراق المدمرة البحرية الإسرائيلية في البحر المتوسط،
أمام مدينة بورسعيد في الساعة الخامسة من مساء يوم 21/10/1967، وقد وصف ليلة تدمير
السفينة الحربية - إيلات - بأنها كانت ليلة شبيهة بالعرس، حيث نزلت النساء والرجال
للشوارع بالفوانيس، حتى صارت مدينة بورسعيد والبحر المتوسط كقطعة نور.. وتطرق
أيضاً إلى يومياته في حرب الاستنزاف وكيف كانت حياة الجنود وروحهم المعنوية،
ونستعرض في هذه الحلقة الأخيرة؛ أهم محطة في حياة هذا البطل، وهى لحظات العبور
والتحام البنادق، واشتعال النيران، واستشهاد الأصدقاء، واصابته.. وزيارة الفنانين
والفنانات لمرضى الحرب، كما نسلط الضوء على سيرته الشخصية، وحياته الريفية، وأهم
أقواله، وكيف أصبح نموذجاً رائعاً بين أهله وجيرانه.
كانت المحطة الأهم في حياة الجندي المحارب "جمال محمد عبد العال" هي معركة العبور العظيم، في السادس من أكتوبر عام 1973، وكان الانتصار من الله أولاً ثم القيادة، وهو معجب بالسادات فيقول عنه: "السادات بطل حرب".
كان من أوائل الذين
عبروا القناة في 6/10/ 1973 وظل لمدة 11 يوم داخل ميدان المعركة، وقبل نهاية اليوم
الحادي عشر 17/10 أصيب بإصابات بالغة، نقل على إثرها للمستشفى.
يقول: "من
الساعة الثانية إلى الساعة الثامنة مساءً فى أول أيام المعركة لم تُضرب علينا طلقة
بقوة الله.. وكلمه الله أكبر زلزلة الأرض، وكانت الصواريخ والطيران المصري مدمر
العدو تدمير شامل بقدرة ربنا – والمشاهد التلفزيونية عن الحرب مشاهد حقيقية"،
ثم يقول: "من 6/10 لغاية 11/10/ 1973 كانت المعركة في صالحنا وبعد مساندة
الطيران الأمريكي ومساعدته لإسرائيل بدأ يؤثر علينا.. والعدو لاحظ أن (متلا)
وجزيرة (البلاح) لا يوجد بهما حراسة قوية فحصلت الثغرة، فعبر منها العدو بأربع
لواءات دبابات مدرعة – أمريكية - اللواء 108 دبابة مع الغطاء الجوى، فعبر قناة
السويس، وفتح تشكيل طريق الإسماعيلية السويس، وبذلك أصبح العدو أمامك، والبحر –
قناة السويس - والعدو خلفك، فإرادة ربنا والقيادة، الراجل أبو قرعة اللي هو
السادات مخه زري، راح مديهم الدَبْ الأصلي، مسح من السويس للإسماعيلية مسحه شاملة،
ضرب بالمدافع والطيران وقضى عليها بما فيها قواتنا.. لأن الأمر العسكري يقول: إذا
كان عندك كتيبة وأُسِرت، والعدو احتلها، يبقى دمر الكتيبة بتاعتك بقوات العدو، بدل
ما تدمر البلد كلها، يبقى أنت حميت البلد بناقص ألف أو ألفين، فراح السادات فتح
النار على منطقة الثغرة، فالعدو فى نفس الوقت طلب وقف إطلاق النار، لمَّا عرف
قواته دمرت ودا وضع المعركة والحرب".
* * *
أصيب يوم 17/10 بعد 11
يوم من المعركة، وتم نقله لمستشفى الزقازيق ومكث بها يوماً واحداً لعمل الإسعافات
الأولية، ثم نقل في القطار الطبي لمستشفى المعادي، وظل سنتين يتعالج فيها، حيث
أجرى خمس عمليات جراحية في ذراعه ورجله.
ويوم أصيب وهو فى
طريقه للمستشفى يقول: "كانت الناس تقابلنا بالزغاريد، وكانت أطباء تعالج صح،
وجيهان السادات جاءت تسلم علينا، والسادات جه سلم علينا، وأعطانا كل واحد مصحف
هدية.. حتى الفنانات أتين لزيارتنا مثل: فاتن حمامة، ولبلبة، وسهير زكى التي طالما
رقصت لنا فى المستشفى..".
وبعد قضاء فترة جيشه التي
ناهزت عشر سنين صرفوا له معاش عسكري، وأعطوه جواب تعيين هو وأمثاله، وكان تعيينه
فى (مجلس المدينة) بديروط ومكث فى هذه الوظيفة ثلاث سنوات، ثم تركها نظراً لكثرة مشاغله،
وكان مرتبها 7.5 جنيه سنة 1975، وهو مبلغ كبير نسبياً فيقول: "كان البيت يقعد
النهار كله ميصرفش ربع جنيه، كان كيلو اللحمة بخمسين قرش"، فضلاً عن جوائز
رمزية أخذوها عبارة عن مبالغ مالية تتراوح ما بين 500، و1000 جنيهاً.
من أقواله:
·
إحساس – المعركة - لا يوصف ولا ينسى لحد ما أموت.
·
قعدت 10 سنين فى الجيش معملتش يوم غياب، والشهادة مكتوب فيها قدوة
حسنة.
·
أنا بحب الجيش جداً.
·
والله العظيم لو استدعوني دلوقت لأروح الجيش وأعلمهم التدريب العسكري
الصح.
·
متخفش من الجماعة الصعايدة .. دول أسود فى المعارك.
كما يقول عن البطولات:
"كل واحد فى المعركة بداية من 67 إلى 73، كل عسكري بما فيهم الضباط، أيّ مخلوق
حضر المعركة ليه بطولات وذكريات، وتعامل مع العدو عملي .. كان اللي بيجيبلك
التعيين يعتبر بيحارب، اللي كان بيجيبلك الذخيرة كان بيحارب، اللي كان بينقلك وأنت
مصاب للخلف كان بيحارب، كل واحد ليه عمل فى المعركة، فنحمد الله وربنا ينصرنا على
القوم الكافرين".
* * *
بعد المعركة والشفاء
من الإصابات انخرط فى الحياة العامة، وسافر للعمل فى الكويت فمكث فيها حوالي أربع
سنوات، ثم سافر السعودية وحج مرتين، وسافر إلى العراق وغيرها.
أمَّا عن أعز أصدقائه
فيقول: "لى صديق عزيز على قلبي كان رفيق دربي وهو من المنصورة، فضلاً عن
أصدقائي اللي ماتوا فى أرض المعركة من أسيوط والمنيا وغيرهم".
وعندما سألني أنت
بتكتب ولا بتسجل؟ قلت له: أسجل، قال: "متخفش، أيّ رتبة على مستوى الدولة عاوز
يناقشني أنا تحت أمره".
من هو البطل جمال؟
هو جمال محمد عبد
العال، ولد فى قرية (نزلة ضاهر) التابعة لمركز ديروط فى الخامس من ديسمبر عام 1943،
دخل كُتَّاب القرية وعندما حفظ بعض أجزاء القرآن الكريم خرج منه، نظراً لظروف
العائلة، وبدأ يشارك والده في إدارة أملاكهم، لكن ذكريات الكُتَّاب مازالت محفورة في
عقلة، فعندما يتحدث عنه يشعر بالسعادة والبهجة، وكان يتمنى أن يكمل تعليمه فيه
فيقول عنه: "كان يعلم أحسن من الثانوية حالياً، والمقرئ يُدرسلك الأسبوع كله،
ويأخذ قرش صاغ – عشر مليمات – ولمَّا كان الطفل يغلط في حرف يعاقبه بالعصا على
أطراف أصابعه .. لكن حالياً الطالب بيغلط في مدرسه .. كنا نتعلم الكتابة على اللوح
الصاج، وكنا نقعد نذاكر على اللمبة الفلاحي الجاز، حتى نحفظ ما علينا من القرآن
والدروس، أمَّا الآن فالطالب يقفل الكتاب ويقعد على النت". هذه المقارنة تعكس
لنا مدى ما كان يتمتع به التعليم فى فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي،
والواقع التعليمي المرير.
بعد وفاة والده تولى
مشيخة القرية - نائب العمدة - فأبوه أحد المشايخ المشهورين بالحكمة والعدالة،
ونصرة المظلوم والوقوف بجوار المساكين والفقراء، فورث هذه الصفات الجميلة من
والده، وتبوأ مقعده في المشيخة، فرحبت به القرية شيخاً كريماً، ومازال شيخاً عليها
حتى الآن - 2016 - وتعدت فترة شياخته 30 عاماً.
والمشيخة ليست عملاً
سهلاً فيقع على الشيخ أعباء الصلح بين الناس، ونشر الأمن ومراضاة جميع الأطراف
ويقول: "الناس لا تلجأ للحكومة إلا عندما لا يوجد كبير في العائلة، والعائلة التي
يوجد فيها كبير هو الذي يفك أو يحل مشاكلها، وأنا أحترم عائلتك عشان الشخص ده، لأن
لو في مشكله بعرضها عليه، وكبار العائلات يقدرون بعضهم".
وعندما عرجنا بالحديث عن والدته أطرق قليلاً ثم
قال: "هي من ضمن الأمهات المثاليات لأنها عاشت في الأيام التعب والصعبة وربت
أجيال.. علمتنا الأدب، والحب، والعلم، واحترام الجار، واحترام الشخصية، والسمعة الطيبة..".
ورغم أنه لمْ يكمل تعليمه إلَّا أنَّ أخاه الأكبر
واصل تعليمه حتى تخرج فى كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1957، وظل يعمل في مصلحة
الضرائب حتى أصبح مدير عام ضرائب بني سويف.
ويبدو أن "جمال" كان الوحيد من بين أفراد
أسرته الذين شاركوا فى حرب 67 و 73، فهم يفتخرون به كأحد أبطال حرب أكتوبر المجيدة،
وأحلى فترة من حياته كما يذكر هي التي قضاها فى الحروب الطاحنة من أجل تحرير الوطن،
من الأعداء.
وكلمتنا فيه: انه جندي رائع يمثل العسكرية
المصرية بأبهى صورها، وأدق معانيها، تقياً، نقياً، ورعاً، لا يتوانَ عن مساعدة من
لجأ إليه، مع كامل التواضع لله U، مسموع الكلمة، محبوب من أهله وجيرانه، له باع طويل في نشر الصلح
ورد المظالم إلى أهلها.
فلنردد جميعاً، تحيا العسكرية المصرية، تحيا
العسكرية المصرية، تحيا العسكرية المصرية.
ومازال عطائه مستمراً، وفق الله الجميع لرفعة
الوطن والذود عنه.