جديد المقتطف

Post Top Ad

الجمعة، 8 أغسطس 2014

حياة ماري أنطوانيت

بقلم: رشا عدلي
كاتبة وباحثة في تاريخ الفن - مصر
ولدت "ماريا انطوانيا جوزيفا جوانا" أو "مارى انطوانيت" عام 1755، وجمعت من الألقاب التي يصعب حصرها، فلقبت بـ (دوقة النمسا، أميرة إمبراطورية، أميرة بوهيميا، وأخيراً ملكة فرنسا)، وهى ابنة الإمبراطور "فرانسيز الأول" إمبراطور النمسا، والإمبراطورة "وريجانت ماريا تريزا"، ماتت أختها الكبرى بداء الجدرى فأغدق عليها أبويها بالدلال والحب، وعاشت طفولة مرحة إلى أن وصلت سن الرابعة عشر، وحينها قام بخطبتها "لويس الخامس عشر" لابنه "دوفين أوف فرانس"، وكان زواجا سياسيا بعد توقف الحروب بين فرنسا والنمسا، وأثار هذا الخبر فرحة الإمبراطورة "مارى تريزا"، فابنتها ستصبح ملكة متوجة، بينما كانت "مارى" لا يهمهما شيء سوى اللعب بدميتها الصغيرة.
ومنذ ذلك الحين لم يشغل بال الإمبراطورة سوى إعداد ابنتها لتليق بالدور الذى سوف تشغله، فأخذت الفتاة دروسا فى اللغة الفرنسية والفنون والإتيكيت، ولكنها نسيت أن تعطيها دروسا فى كيفية مواجهة الكراهية والأحقاد المقبلة عليهم.
وفى أبريل 1770، تم زواج "مارى أنطوانيت"، وعقد القران في كنيسة أوغسطين بالنمسا، وكانت هناك واقعة سردها الكثير من المؤرخين فى الكتب التى تناولت حياة هذه الملكة بأنها قامت عند التوقيع على العقد برسم كعكة محببة إليها، وهذا إن دل إنما يدل على براءة الطفولة التى لم تكن غادرتها بعد.
لقد كانت هدية "دوفين أوف فرانس" (لويس السادس عشر فيما بعد) عبارة عن طقم كامل من الألماس، ومعه علبة من المجوهرات الماسية، وبعد الاحتفال الأسطورى بعقد القران، توجهت "مارى أنطوانيت" إلى الباخرة ومعها حشد كبير من حاشيتها، ودعتها أمها لتنصحها قائلة: "إحترسى طفلتى الحبيبة"، وكأن حدسها يخبرها بأنه شيء ما سوف يحدث على الجانب الآخر من حياة ابنتها، وخلال عبور الباخرة الدانواب أمرت بالتخلى عن كل ما يمت بصلة للنمسا، سواء الملابس أو الخدم أو الحرس، وأمام هذه الأوامر القاسية لم يكن لها سوى الرضوخ لها.
وعند وصول "مارى أنطوانيت" إلى فرنسا خرج الشعب الفرنسى في استقبال زوجة ولى العرش، وكانت ترتدى البياض من فستان غاية فى الرقة، وفوقه أطواق من الورود البيضاء وتتزين بطاقم من الألماس. كانت "ماري" بيضاء زرقاء العينين شقراء الشعر، رآها الشعب جميلة وملامحها مختلفة تماما عن الشعب الفرنسى، فكثيراً منهم أعجبوا بها وأحبوها والكثيرين دبت الغيرة والكراهية فى قلوبهم، ومنهم سيدات البلاط فى قصر فرساى مقر إقامتها، وهن اللاتي كان يطلقن عليها النمساوية، تعبيراً عن الحقارة والازدراء.
وفى السنوات الأولى من هذا الزواج، شعرت "مارى" بالوحدة فالزوج كان ما يزال فى السادسة عشر من عمره، هادئ الطباع إلى حد البرود، ولم يكن له أى تجارب عاطفية سابقة، وربما كان الشيء الوحيد الذى أجاده فى الحياة هو الصيد، فيخرج لممارسته، وكان يقضى أياما بعيدا عن عروسه حتى أنه صرح قائلاً أن الأوقات التى يقضيها مع أصدقائه أو في الأوبرا ولعب القمار أسعد بكثير من الأوقات التى يجلس فيها معها.
وهناك مقولة طريفة توضح أبعاد هذه الشخصية التى تداولتها المئات من الكتب للوصول لماهيتها، فيحكى أن ليلة عرسه أكل الكثير من الطعام، وعندما انتبه أبيه "لويس الخامس عشر" لذلك، وقد كان معروفا عنه أن له العديد من القصص العاطفية، ومن أشهرها قصة عشقه لمدام "بومبادور"، نصحه بألا يأكل كثير حتى لا يصاب بالتخمة فى هذه الليلة، فأجابه دوفين بمنتهى البرود "يجب أن أنام جيداً، فانا لا أستغرق فى النوم إلا إذا امتلأت معدتى بالطعام". وهناك بعض الاقاويل عن العجز الجنسي الذي كان يعاني منه هذا الملك، وأن الشعب كان يتندر بالطرائف على هذا الأمر فى السنوات الأولى من زواجه بمارى.
وشعرت "ماري" بالوحدة خصوصا لابتعاد زوجها عنها والأحقاد التى واجهتها، خاصة وأنها ما زالت لا تملك اى خبرة بالحياة. ولقد عاشت "مارى" حياة الترف والبذخ وكأنها تخرج كل طاقاتها فى شراء كل ما هو ثمين من تحف ومجوهرات وأعمال فنية، وأقامت الحفلات الصاخبة والتنكرية ولعبت القمار، حتى أنها فى حفلة عيد ميلادها الواحد والعشرون أخذت تلعب القمار لمدة ثلاث أيام متواصلة, وفى كتاب عن قصة حياتها وضحت الكاتبة أن لعبها للقمار بهذا الشكل الهستيرى ما هو إلا تمرد على الواقع الذى كانت تعيشه، ففى الخسارة والمكسب نوع من الإثارة والمتعة. واهتمت بالأزياء، وكانت تلبس الفستان لمرة واحدة فقط، وعشقت قماش البروكار الدمشقى، المصنوع من خيوط الذهب والفضة، وكان يستورده خصيصا لها مصمموا الأزياء.
كانت "ماري" ترتدى الباروكات المزينة بالريش والمجوهرات، وتعشق التكلف فى كل شيء، وبعيدة كل البعض عن البساطة، فكانت لا تعرف العيش إلا وهى محاطة بالأشياء الجميلة والنادرة التى كانت تقوم بتصميمها بنفسها، ثم تعطيها للحرفيين لكى ينفذوها. وهكذا، فأن "مارى أنطوانيت" لم تكن ملهمة حقيقة لكبار الرسامين بقدر ما كانت محرضة على ابتداع الأثاث الباهر وقطع الزينة، أما ذوقها فى الموسيقى فكان شبيها إلى حد ما بذوقها فى الرسم، فقد أعجبت بالموسيقار غلوك وبوتشينى وسالييرى، وفرضتهم على حفلات البلاط، ولم تنتبه يوماً لعبقرية موتسارت. ورغم عدم تقديرها للرسم والفنون الراقية إلا أن رسامي فرنسا تباروا على رسم ملامح ملكتهم الجميلة.
وكانت أكثرهم قرباً للملكة هي الفنانة "مارى لويز فيوجن" زوجة الفنان "جان باتيست"، التى رسمت للملكة ما يزيد عن 30 بورتريه خاص لها. ويرى بعض المؤرخين أن الملكة أصيبت بالملل من الانصياع للأوامر، خاصة قبل اعتلائها لعرش فرنسا، ووجدت فى تنصيبها ملكة فرصة لإفراغ كل الغضب المستتر الذى كان يملؤها نتيجة الرضوخ لأوامر كانت مفروضة عليها، فيرى الكثيرون أن طريقة لبسها لفساتين كثيرة البهرجة والألوان الصارخة وتصفيف شعرها بهذا الشكل من الريش والشرائط، لم يكن يناسب ملكة فرنسا، بل امرأة تعمل فى حانة. ولكن الغرور الذى ملأها جعلها تصم أذنيها عن أى نقد، وتنصاع لرغباتها هى فقط حتى إنها فى إحدى الحفلات التنكرية تعرفت على كونت "فيرسن" وقاما بالرقص معا بدون أن يعلم أنها الملكة، وعند انتهاء الرقصة قام بالتعرف عليها، وأعجب بها، وكم أغرمت هى به، فقد كان يملك من الملامح الوسيمة والشخصية الجاذبة بما يكفى لإيقاع "مارى أنطوانيت" المتعطشة للحب والاهتمام فى غرامه، وكان يزورها بالقصر ويتردد عليها كثيرا، وكان ذلك فرصة للشائعات أن تزداد.
كانت "مارى" تفضل الإقامة فى "بتيت تريانون"، وهو قصر صغير وجميل بناه "لويس الخامس عشر لعشيقته، وكانت حوائطه من الذهب والفضة. وحينما توطدت العلاقة بين "مارى" وكونت "فيرسن"، وأصبحت واضحة وضوح الشمس، أجبر "فيرسن" على مغادرة البلاد، وعندما ذهب لوداعها دخلت فى نوبة حادة من البكاء، ولكن عشيقها طمأنها بأنه أبداً لن ينساها، وسيزورها فى أقرب فرصة حينما يسمح له بالرجوع للبلاد مجددا. ولقد كان حزنها على فراق "فيرسن" قد ترك الأثر الأكبر على حياتها، فاستبدلت حياة الترف والمجون بحياة أكثر استقراراً، وامتنعت عن إقامة الحفلات، واكتفت فقط بحفلات الشاى لصديقاتها، وكانت تجلس وحيدة بحديقة قصرها، وتقوم بالرسم أو العزف على البيانو.
والجدير بالذكر أن "لويس السادس عشر" قام بإجراء عملية جراحية لإنجاب وريث للعرش، وبنجاح العملية أنجبت "مارى أنطوانيت" أول أطفالها "صوفى" في عام 1778، وتمت الولادة أمام الجماهير، وذلك وفق للعادات فى ذلك الوقت، مما جعل "مارى" تشعر بالاشمئزاز من هذه العادات، ولم ترض بها أثناء ولاداتها المتتالية.
لقد فرحت "مارى" بابنتها، وقالت: "إن الولد للدولة والحكم، أما البنت فهي لي ولأحزانى"، ثم أنجبت "لويس جوزيف" في عام 1781، ثم "لويس تشارلز" في عام 1785. وبعد أن أصبحت "ماري" أما، تغيرت كثيرا وأعطت لأطفالها الكثير من الحب والرعاية، وتحملت المسئولية، ولكن القدر لم يمهلها الفرصة لتقوم بدور الملكة الأكثر اتزاناً واحتراماً، حينما كشر عن أنيابه، وتحول لأكثر شراسة، ومات ابنها بمرض السل.
حزنت "ماري" لموت ولدها كثيرا، وسرعان ما تدهورت الحال فى فرنسا بسبب الديون وزيادة الضرائب على الشعب، حتى وصل الأمر إلى عدم عثور شعب فرنسا على قوت يومه، وروى القصاصون أن "ماري" عندما سمعت صوت ضوضاء خارج القصر، وكان بعض من الناس يتظاهرون، سألت: "لماذا يتظاهرون" فأجابها الخدم: "أنهم يتظاهرون لعدم عثورهم على الخبز"، فردت ببرود قائلة: "عليهم أن يأكلوا البسكويت أفضل".
إن تلك العبارة أثارت الكثير من الجدل لدى المؤرخين، فهناك مؤيد ومعارض، فمن عرف "مارى أنطوانيت" استبعد ان تقول هذه العبارة، وأنها لفقت لها بواسطة البلاط الملكى، حتى يكرهها الشعب أكثر.
وكانت "مارى أكثر غباء في ذلك التوقيت الحرج، عندما أمرت ببناء قرية نموذجية على غرار بيوت الفلاحين، والتي تعرف لدى الطبقة الارستقراطية باسم Himo ، وقد أثار ذلك التصرف الشعب كثيرا، الذى لم يكن ليعثر على العيش بعد، وملكته تبنى قرية نموذجية، فازداد الشعب الفرنسى كراهية لها، وازدادت الأوضاع سوءا، وتظاهر الشعب وذهب إلى سجن الباستيل، واستولى عليه.
وبسقوط الباستيل سقطت هيبة الحكم والملكية، وسرعان ما توجهت الثورة إلى قصر فرساى، وأخذوا الملك والملكة وأطفالهما، واثنا عشر من أفراد الحاشية، وتوجهوا بهم إلى مكان آخر تحت المراقبة المشددة، وأثناء هذه الأحداث كان "فيرسن" فى النمسا، واتفق مع الإمبراطور النمسوي أخو "مارى أنطوانيت"، ووضعوا خطة لمساعدة العائلة المالكة على الهرب، فاستقلوا فجراً عربة تجرها الخيول إلى القصر.
إن كان مشهد الوداع بين الملكة وعشيقها "فيرسن" حارا، فمشهد اللقاء مجدداً كان أكثر حرارة، ويقال أنه طوقها بين ذراعيه، وأخذا يبكيان، ثم شرح لها خطة الهروب. وكانت هذه محاولة الهروب على وشك النجاح، ولكن في منتصف الطريق تقريبا شاهدهما أحد أفراد الشعب، وتعرف على الملك، الذى لم يكن شاهده قبل ذلك الحين إلا على صكوك العملة، وقام بالإبلاغ عنهم، وبالفعل تم القبض عليهم، وأودع كل منهما بسجن منفصل. وكانت "مارى" تتألم كثيرا عند سماع صوت أنين ابنها، فقد كان محبوسا بالزنزانة المجاورة لها.
وتم إعدام "لويس السادس عشر" أولا بفصل رأسه عن جسده بعد إجباره على التنازل عن الحكم، وبعده بشهور لاقت "مارى" نفس المصير فى أكتوبر 1789، بعد أن قيدت بعربة مكشوفة أخذت تطوف بها ميدان الكونكورد، وهناك خرج الشعب الفرنسى يصطف على الجانبين ويرميها بالقاذورات والحجارة، وكانت النساء تسبها بأسوأ الألفاظ (أقل ما فيهم: "أيتها العاهرة").
من استقبل هذه المرأة أثناء دخولها فرنسا أول مرة، كان من الصعب عليه أن يصدق أنها نفس المرأة التى تساق لحتفها. وربما شفي غليل الشعب الفرنسى منها، وهو يراها على تلك الهيئة المزرية، كان شعرها الذي كانت تلجأ لعشرات المصففين ليصففوه قد قص تماما وتحول إلى البياض.
وأخيراً فصل رأسها عن جسدها بمقصلة الثورة، تلك الآلة التى اخترعها طبيب خصيصا للثورة، لكي تقصل رقاب الآلاف من الحاشية الملكية, وقد رسم لها فنان ثوري لوحة تخلد هذا الحدث المأسوى.
يرى الكثيرون أن "مارى أنطوانيت" كانت كبش الفداء للملكية الفرنسية الفاشلة، فمنذ "لويس الرابع عشر" وفرنسا مثقلة بالديون، وكان زواجها بسن صغيرة، وعيشها وسط مجتمع غريب عليها سببا كبيرا فى استهتارها، وعدم تحملها المسئولية. وكان ابتعاد وجفاء وعدم احتواء زوجها لها قد جعلها تقع فى حب آخر، كان لها مخلصا لآخر لحظة.
ولقد اغفل الشعب الفرنسي أن "مارى أنطوانيت" كانت ترعى الأطفال الأيتام، وتقوم بمساعدة العجزة والمسنين، وهذا لم تفعله أي سيدة بلاط فرنسية قبل ذلك. ولكن هذا الجانب الخيري من شخصية الملكة تغافل عنه الفرنسيين، وهناك واقعة ربما تؤكد أن "مارى أنطوانيت" ليست بكل هذا السوء الذي تصوره الشعب الفرنسي، فيقال أنها في آخر لحظات حياتها، وهى  تستعد لمغادرة الحياة، وبدون قصد دهست قدم الجلاد، وسرعان ما اعتذرت له بأدب ورقة.
والآن بعد موت "مارى أنطوانيت" بأكثر من قرنين، أصبح عند الشعب الفرنسى مهووس بملكته، المغدور بها، وبشكل دائم تقام المعارض التى تعرض فيها كل ما لمسته هذه المرأة يوماً، وتجذب هذه المعارض حشد  كبير من الناس من داخل وخارج فرنسا، ولقد أثارت قصة حياتها التراجيدية الكثير من المؤرخين، وكانوا بين مؤيد ومعارض. وكانت حياتها مادة سخية صنعت الكثير من الأفلام، التي تحكي قصة حياتها، وازدادت شعبيتها يوما بعد يوم، حتى أنه فى استفتاء أخير أجمع الأغلبية من الفرنسيين على أن ملكتهم لا تستحق هذا المصير.

وربما كان لإعدام "فيرسن" ومغادرته الحياة بنفس الطريقة التى لاقتها "مارى أنطوانيت" مفارقة غريبة أيضاً، فبعد عشر سنوات من إعدام حبيبته ألقى القبض عليه، وأمر بإعدامه بتهمة إثارة الشعب، وقيامه بأعمال شغب، وقد استقبل الرجل قرار إعدامه بلامبالاة، لأن موت "مارى أنطوانيت" كان بمثابة سقف الألم الذى يتساوى تحته كل شيء، وبالنسبة له كانت الحياة والموت سواء، ولم يقل وقتها سوى عبارة واحدة: "لا أهتم بما سوف يحدث لى فانا انتهى أمرى منذ عشر سنوات".