جديد المقتطف

Post Top Ad

الأحد، 10 فبراير 2019

د. عبد الحميد شلبي يدون عن التاريخ وتصحيح المفاهيم


المقتطف .. متابعات - القاهرة ..
في تدوينة مهمة على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك أخذ الأستاذ الدكتور "عبد الحميد شلبي" أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر يشرح لمريديه بأسلوبه المعتاد الذي يعتمد على التشويق تلك الأفكار المتداولة المغلوطة عن تزييف التاريخ، تحت عنوان التاريخ (تصحيح المفاهيم). وإليكم نص التدوينة:
قال لي من ليس بعلم التاريخ بعليم: "أنكم تزورون التاريخ، فتاريخكم موضوع والعلم به لا ينفع والجهل به لا يضر". قلت في نفسي: سبحان الله، وكأني بشمس الدين السخاوي (ت902هـ) حين صنف كتابه الموسوم بـ "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ"، والذي جاء بعنوان آخر هو: "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ"، حيث عدد في كتابه أهمية التاريخ وشرف العمل به، وكأنه بعمله هذا يرد على صاحبنا وعلى كل من يتهم التاريخ وأهله.
دار بيني وبين صاحبي حوار، سألته خلاله عما يعرفه عن التاريخ، فقال: "أنه روايات موضوعة تخضع لهوى كاتبها، وليست لها مقاييس علمية". سألته ثانية: هل تعرف كيف يُكتب التاريخ؟ ومتى؟
فأجاب: "التاريخ يُكتب في أي وقت، ويكتبه المنتصر". قلت له يا هذا، اسمع وعي أصبت وأخطأت في آن، قال: "كيف؟". قلت سأنبئك بما لم تحط به علمًا، فأعرني قلبك قبل سمعك.
التاريخ يا صديقي علم جم الفوائد، عظيم الأثر في النفوس والقلوب الواعية، يكفي التاريخ فخرًا أن جعله الله تعالى من آياته التي يجب أن يمر عليها العاقل ويعيها، ألم تسمع أو تقرأ قول الله تعالى في سورة يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (آية 111).
يا صديقي أصبت في قولك أن التاريخ يكتبه المنتصرون، وأخطأت في قولك يكتبُه، وفي قولك أنه يُكتب في أي وقت، فالتاريخ يوجهه المنتصرون وفق أهوائهم وتفسيراتهم، لكن الحدث يكتبه الجميع. وضربت له مثلاً بنفسه وقلت: أننا الآن نقف سويًا ويمر علينا أشخاص مختلفون في توجهاتهم تجاههنا، فمن يظن بنا خيرًا يقول أنهم يتحدثون في أمور دينية، أو يسألون عن أحوال بعضهم البعض. أما من يضمر لنا شرًا فيقول أنهم يتآمرون أو يخططون لكذا وكذا. هنا الحدث الثابت الذي لا يختلف عليه أحد كائنًا من كان، أننا نقف الآن سويًا ونتجاذب أطراف الحديث، أما المختلف فيه فهو التفسير التاريخي الذي يخضع للهوى، إن لم يمتلك المؤرخ أدوات البحث والأوراق اللازمة للتثبت من صحة أقوال هذا أو ذاك، ومن لم يمتلك ملكة النقد لتمحيص وتحقيق هذه الأوراق، وحتمًا ستظهر الحقيقة إن عاجلاً أو آجلاً.
أما قولك : "التاريخ يُكتب في أي وقت"، فهذا من كلام العوام، فلدينا قاعدة تقول: "التاريخ يُكتب غدًا"، أي أن هناك فترة زمنية (تطول أو تقصر) أقلها خمسة عشر عامًا، وقد تصل إلى ما يزيد عن خمسين عامًا، وذلك حتى تصل إلينا جميع أوراق الحدث من كافة المشتركين فيه والمراقبين له. أما قولك العلم به لا ينفع والجهل به لايضر، فهو عين الجهل بالتاريخ، يا صديقي العلم به ينفع والجهل به يضر، الفرد يعيش بالتاريخ، والأمم تحيا بالتاريخ، فلو أسقط العالم التاريخ من ذاكرته لاختلت موازين الأشياء، فمثلاً ما نشاهده من تقدم علمي في مجالات الطب كلها بنيت على تجارب السابقين، وسيأتي اللاحقين ليبنوا على تجارب الحاليين.
يا صديقي حينما تم اختراع الكمبيوتر كانت تخصص له غرفة كاملة فجاء من استفاد بتاريخ السابقين في الاختراع والتصنيع، وأضاف إليه ليصبح على ما هو عليه الآن. يا صديقي التاريخ ليس رواية للتسلية بل هو أسلوب حياة، يا صديقي إذا ذهب أحدهم للطبيب يشتكي مرضًا ما، فأول ما يسأله عنه الطبيب هو "منذ متى وأنت تعاني من هذا الألم؟ "وهذا ما يسمى بـ "تاريخ المرض". يا صديقي التاريخ علم يُنتفع به إذا أرادت الشعوب ذلك، لك أن تتخيل أن الدول تتقدم بالتاريخ، لم أقصد التغني بأمجاد الماضي وبأننا أرباب الحضارات... إلخ، ما أقصده أنها تدرس ماضيها وماضي غيرها من الشعوب للاستفادة من التجارب السابقة، فتبني عليها وتضيف للبشرية لا أن تتوقف عند الماضي وتتباهى به على الأمم.. أتعرف يا صديقي أن الغرب ابتنى حضارته على تراثنا وما قدمناه للبشرية، درس التجربة، وأضاف عليها وطورها، فتقدم هو وتخلفنا نحن، لأننا وقفنا نتغنى بالماضي ونسفه من علم التاريخ ودراسته.
أخيرًا يا صديقي، إذا افترضنا أن العالم مثل السيارة، فستجد على جانبيها مرايا وأمام السائق مرايا أخرى صغيرة، ولكن الزجاج الأمامي والخلفي شفاف وكبير، فالمرايا هي التاريخ الذي يجب على الفرد أن ينظر إليها من حين إلى حين ليسترشد بها على الطريق، ولتكون دليله إذا أراد التوجه جهة اليمين أو جهة اليسار أو الخلف، ولا يمكن لعاقل أن يقول أن ننظر دائمًا إلى المرايا (التاريخ)، بل يجب أن تكون عيوننا على المستقبل (الزجاج الأمامي)، ولكن لا نغفل النظر إلى المرايا (التاريخ) لأنها هي الدليل والمرشد.
يا صديقي رحم الله القائل: "مَن لم يعِ التاريخَ في صدرِه لم يَدْرِ حُلوَ العَيشِ مِن مُرِّه، ومَن وَعَى التاريخَ في صَدْرِه أضافَ أعمارًا إلى عُمْرِه".
وفي تدوينة تالية، استكمل الدكتور شلبي حديثه قائلا:
لازال الحوار مستمرا مع صديقي الجاحد بعلم التاريخ، فبعد أن بينت له أهمية علم التاريخ، وكيف ومتى يكتب؟ بادرني بإشكالية جديدة، وهي "أن أهل التاريخ يدرسون معلومات عقيمة، تعتمد على حفظ الأحداث والتواريخ، وهذا ما يؤدي إلى عزوف الطلاب وعامة الناس عن التاريخ:. قلت: يا صديقي ليس كل ما تسمعه عن طرق تدريس التاريخ تصدقه، نعم هناك من يدرس التاريخ بطريقة صماء لا حياة فيها، وهناك (وهم كثر) من ينفخ الروح في الحدث وشخوصه، ويجعل المستمع يتشوق لمعرفة المزيد ولسان حاله يقول: وماذا بعد؟.
يا صديقي، أما بالنسبة لتواريخ الأحداث، فكما توجد قاعدة شرعية تقول عمن يخرجه الفقهاء من الملة أنه (أنكر معلوما من الدين بالضرورة) فأنا أقول أن ليست كل التواريخ مهمة، ولكن توجد تواريخ يجب أن يعيها ويحفظها المثقف والباحث في التاريخ، لأنها كما أردد لطلابي (مما هو معلوم من التاريخ بالضرورة)، فكيف لمثقف أو مفكر أن يدافع عن قضية وطنه دون أن يعرف أهم الأحداث.
وعلى سبيل المثال: متى جاء المحتل الفرنسي، ومن بعده الإنجليزي، ومتى رحل؟ وأهم الثورات التي قامت؟ وأهم المعاهدات التي وقعت؟ كل ذلك في سياق الموضوع، وليس المطلوب ذكر التاريخ للحفظ، ولكن يفهم في إطار الموضوع مع ربطه بأحداث أخرى مشابهة. يا صديقي كلكم تتغنون بالقضية الفلسطينية مثلاً، فهل تعرف متى كان تصريح بلفور؟ هذا أمر يحب أن يعرفه كل عربي.
يا صديقي، تدريس التاريخ لا يحتاج إلى كثير جهد، ولكن فقط يحتاج إلى عقل منظم، وأن يمتلك المحاضر ملكة الإلقاء (مثل أي تخصص)، والأهم أن يضع في اعتباره الإجابة عن التساؤلات التي قد تخطر على بال المتلقي قبل أن يسأله، وذلك من قببل، متى ؟ وأين؟ وكيف، ولماذا؟... إلخ، ثم يربط كل ذلك بما هو كائن في عالمنا المعاصر.
في النهاية يا صديقي، تدريس التاريخ يتم بعملية عقلية فلسفية، يسبح فيها المحاضر بفكره بين كل التخصصات (الدين، السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، الفلسفة) فهو وعاء لها، ومعالج لآلامها، وموجه لمساراتها، ومن سره أن يرى مثقفا، فلينظر إلى أهل التاريخ. يكفيني فخرا وتيها أنني باحث في هذا العلم الجليل.